المؤسسات الدينية والفكرية وتحدي المحافظة على الوسطية .. / د.اسلم ولد الطالب أعبيدي

المؤسسات الدينية والفكرية وتحدي المحافظة على الوسطية والمرجعية الفكرية المغاربية

سأحاول أن أتجاوز الجدل الدائر حول وجود مؤسسة دينية في الإسلام بين من ينفي  أن تكون الممارسة الدينية للإسلام عرفت شكل المؤسسة وبين من يرى بأن الإسلام دين ودولة بما يحمله مصطلح الدولة من دلالات.

لأتحدث عن الهيئات أو المؤسسات ذات الطابع الديني و الإسلامي التي تكلفها السلطات بالشؤون الدينية  مثل وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية  ومجالس أو دور الفتوى ولجانها والجامعات والكليات والمعاهد الاسلامية.

و كذلك المؤسسات الدينية غير الرسمية:  كالمساجد والمحاظر والكتاتيب أومؤسسات أو جماعات المجتمع المدني - إذا جاز التعبير  - التي تقوم في بعض  بلداننا بالدعوة  والإرشاد ورابط الأئمة والعلماء والمنتديات الفكرية والعلمية ذات الطابع النقابي الحر أو المدني  .

ومن نافلة القول إن حديثنا عن هذه المؤسسات سيقتصر على الدور الذي يمكن أن تقوم به في إطار المحافظة على الخطاب أو المنهج الوسطي، وكذلك المحافظة على المرجعية أو الهوية الفكرية المغربية باعتبارها حصنا منيعا لمجتمعاتنا ضد التطرف والأفكار الهدامة  .

ولأنه من المفترض أن يكون العلم الشرعي "تعليما وتعلما" هو القاسم المشترك بين هذه المؤسسات والله سبحانه وتعالى يقول: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )، وفي القرآن أيضا: (يَرْفَعُ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذِينَ أُوتوا العِلْمَ دَرجاتٍ) .

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح  : (إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم،فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر).

وانطلاقا من هذه المكانة السامية في الإسلام لأهل للعلم وأهله عموما لاسيما العلم الشرعي فإن المسؤولية الملقاة على عواتق العلماء والمؤسسات الدينة تصبح أكبر.

يجب أن نتحدث عن دور هذه المؤسسات الشرعية لاسيما في هذا الظرف الحرج من تاريخ أمتنا بشكل عام ومايهدد المنطقة المغاربية بشكل خاص؟

المؤسسات الدينية والفكرية ووراثة العلم للنبوة

إن وراثة النبوة  في التصور الإسلامي ليست أمرا سهلا ..فالنبي صلى الله عليه وسلم كان هو المسؤول الأول عن ارشاد الناس وتصحح المفاهيم والتدخل بحزم وصرامة في اللحظات الحرجة التي تلوح فيها نذر الفتنة والفوضى والإنحراف عن المنهج وسطي  لذلك نجده يقول عند نذر الفتنة : "دعوها فإنها منتنة" .وتحذيرا من التطرف والإنحراف (إياكم والغلو في الدين)[1] وكان يعلم أصحابه الصبر على المخالف وحب الخير له وهو يقول بعد أن توقعوا منه العكس:(اللهم اهد دوسا وات بهم ) [2]،وحين قالوا: أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم ،قال:(اللهم اهد ثقيفا وات بهم)  [3]

وبين أن هذا السلوك هو منهج ومبدء ثابت بقوله:  ( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَة)[4]  وبقوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) أي القيم الإنسانية الفاضلة.

وبما أن العلماء هم ورثة الأنبياء كما في حديث: (: إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. )

فوظيفة علماء المسلمين وأئمتهم ودعاتهم  لاسيما في ظرف دولي يتسم بالتعقيد كالذي هي وراثة هذه القيم السامية بالمحافظة على أمانة النصوص المقدسة و صفائها، و صحة تأويلها و الصدق في ممارستها. ؟

و على رأي شيخي العلامة عبد الله بن بيه  :يجب أن يتكامل دور مؤسساتنا الدينية والفكرية  رسمية كانت أم لا مع تدابير الحكومات التي من شأنها أن توجد بيئة السلم و الوئام في المجتمعات. ويتكامل أيضا مع الدور الذي تلعبه الجيوش والأجهزة الأمنية وإن كانت الجيوش تعالج العرض فإن العلماء يعالجون المرض.

بمعنى أنه إذا اضطلع العلماء والأئمة بالدور المنوط بهم شرعيا ووطنيا فإن المشاريع التنموية لدول المنطقة ستستفيد من إمكانات هائلة وجهود كبيرة يتم تبديدها يوميا في الحرب على التطرف والإرهاب.[5]

فالمؤسسة الدينية هي عبارة عن اليات ضبط ديني واجتماعي غير رسمي، أو هذا ما ينبغي أن يكون!.

فالخطب المنبرية والدروس المقدمة في المساجد  ينبغي أن تحرص مثلا على إبراز سماحة الإسلام ووسطية، ومناهج التعليم في الجامعات والمعاهد والمحاظر والكتاتيب يجب أن تراعي حاجة واقع الأمة لفقه السلم والخطاب الشرعي الوسطي و العقلاني المتزن .

وعلى وزارات الأوقاف والشؤون الدينية  ودور الفتوى أن تواجه بحزم الأفكار الوافدة  والمنحرفة والمُحرفة للمفاهيم والفتاوى الطائشة بتصحيح المفاهيم من خلال النشاطات العلمية المكثفة واستغلال المنابر الإعلامية والدورات التكوينية للأئمة وطلاب العلم الشرعي والشباب  عموما وطباعة الكتب العلمية والبحوث الرصينة التي تزيل اللبس وتكشف الزيف.

وهنا أتحدث عن تجربة فريدة لفتت  انتباهي وينبغي للمؤسسات الدينية والفكرية في العالم أن تحذو حذوها وهي تجربة منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي قرر أن يصدر موسوعة في فقه السلم بدأها باصدار  مجموعة من الكتب التي تركز على تصحيح  المفاهيم الملتبسة.

تحدي المحافظة على المنهج الوسطي؟

إن تحدي المحفاظ على المنهج الوسطي يتمثل أساسا في ضرورة تجلية مفهوم الوسطية كصورة ذهنية حتى يكون واضحا وهو ما سنحاول أن نقوم به في هذا المحور  حسب الوقت المتاح.

ولايكفي في ذلك الطرق  التقليدية كتعريف المصطلح لغة واصطلاحا فقط، لأن الناظر في الساحة الفكرية الإسلامية والجماعات المتصارعة سيلاحظ أن كل جماعة تدعي أنها هي من تتمسك بالمنهج الوسطي، وبالتالي هي من يجب أن توصف بأنها حركة أو جماعة وسطية؟

وكل يدعي وصلا بليلى

وليلى لاتقر لهم بذاك

فالوسطية كمصطلح ومفهوم تم استهلاكه والتجني عليه كثيرا منذ منتصف القرن العشرين إلى يوم الناس هذا؟

ولأننا لانختلف أن الوسطية كمنهج اسلامي ثابت هي "حق" فيجب أن نعرف الحق أولا حتى نعرف من يقول به.

وهنا سنجد أن الإسلام في جوهره دين وسطي والوسطية منهج اسلامي ثابت  في كل الأمور ، وأمة الإسلام أمة الوسط والصراط المستقيم.

مادامت الوسطية تعني " الاعتدال في الاعتقاد والموقف والسلوك والنظام والمعاملة والأخلاق، وهذا يعني أن الإسلام دين معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء من الحقائق، فليس فيه مغالاة في الدين،ولا تطرف ولا شذوذ في الاعتقاد،ولا استكبار ولا خنوع ولا ذل ولا استسلام ولا خضوع وعبودية لغير الله تعالى،ولا تشدد أو إحراج،ولا تهاون ،ولا تقصير،ولا تساهل أو تفريط في حق من حقوق الله تعالى،ولا حقوق الناس،وهو معنى الصلاح والاستقامة"[6].

قال سبحانه وتعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَةً وسَطَاً لِتَكُونُواْ شهداء على النَّاسِ وَيَكُونَ الرَسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيَداً)[7]

أي خيارا عدولا كما في كتب التفسير ، وروى الحافظ البزار في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا، وخط عن يمينه خطا، وخط عن يساره خطا، ثم قال: «هذا سبيل الله» ، ثم خط خطوطا فقال: «هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ، وقرأ {أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل}[8] فتفرق بكم، وهذا الكلام قد روي، عن عبد الله من غير وجه نحوه أو قريبا منه[9]

بمعنى أنه لايصح أن يوصف بالوسطي من انحرف عن هذا الخط أو المنهج سواء كان انحرافه يمينا أو شمالا .

فلايوجد ملائكة في جانبي المنهج والمحجة وإنما شياطين فمن غلا افراطا في الدين أو زيادة فيه أو عليه فقد اتبع الشيطان شأنه شأن من فرط في الدين ونأى بنفسه عنه.

ولابد أن نفهم الأمور على هذا النحو ليتضح لنا معنى الوسط المراد هنا.

ونسبة الغلو أو التطرف إلى الدين في قول القائل"الغلو الديني، والتَّطرف الديني"  تجوز في العبارة ، فالغلو والتَّطرف في أسلوب التَّدين لا في الدين نفسه[10] فنحن لا نقصد الدين كوضع إلهي، وإنما ككسب بشري؛ أي كممارسة للمتدين فهذا قد يتعرض للغلو والتطرف إذا لم يكن هناك تحصين.

ويمكن التأصيل لخطورة التطرف أو الغلو على المنهج الوسطي  بالنصوص الشرعية الصحيحة التي تنهى عن الإنحراف والغلو وتجمع بينه وبين الفساد والهلاك والقتل كما ورد في القرآن :(لاتغلوا في دينكم)[11] وقوله تعالى:(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها)[12] وقوله: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ)[13] .

وروى النسائي في سننه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"[14].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يقول أيضا لأصحابه : «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا[15] ، وعلق الإمام النووي على هذا الحديث شارحا: أي "المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم"[16]

و"التعمق" هو الغلو أيضا ويمكن أن نفسر كل مصلح  بالآخر كما يقول ابن حجر العسقلاني : "التعمق أي التنطع والمتعمق البعيد الغور الغالي في القصد المتشدد في الأمر وعميق أي بعيد المذهب"[17].

فالأمة الإسلامية  يفترض بها وفق التصور الإسلامي أن تستغل جميع طاقاتها وجهودها في البناء والعمران لتحقق غاية الاستخلاف في الأرض من غير إفراط ولا تفريط، وتحقق بين أوامر الدين وطاقة النفس البشرية واستطاعتها وتحقق التوازن بين الدين والدنيا وبين العقل والقوة وبين المثالية والواقعية وبين الروح والمادة.

فالله سبحانه وتعالى في التصور الإسلامي رحيم بعباده، وقد يسر على الإنسان في أمور العبادة ولم يقضي بشقائه فقال جل وعلا: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [18]،وقال تعالى:(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) [19]وقال:(وماجعل عليكم في الدين من حرج)[20]

وقد أمر الله تعالى بالتوسط في الإنفاق، فلا إسراف ولا تقتير،قال تعالى:(وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)[21]، وقال:(وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) .

فالتوازن في الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياة بالنظر في كل الجوانب، وعدم طغيان جانب على آخر.

وفي هذا الإطار نهى الإسلام عن الظلم وعن الشح لمايمكن أن يترتب عليهم من غلو وردات، كما في الحديث: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم»[22]

وأمر الإسلام بالعدل وشجع الحكام على القسط بين الناس ورفض الإسلام التفاخر بالنسب والتفاضل على أساس الأعراق و الألوان ولذلك كان النبي يخاطب أصحابه:( الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[23].

ويؤمن الإسلام بحرية الإعتقاد ففي القرآن :(لا إكراه في الدين)[24] وفيه :(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[25].فاختلاف الأديان سنة كونية.

وبتلك الثوابت والقيم هيأ الإسلام لإمكانية التعايش السلمي.واعتنى الإسلام بتربية الناشئة كثيرا وفق المبادئ الإسلامية.

فأين هذه الوسطية مما نشاهده اليوم  وكيف لمؤسساتنا الدينية والفكرية أن تبين هذا المنهج كما هو منهج سمح صالح لكل زمان ومكان؟.

أزمة المفاهيم المفاهيم

إن الوجه الآخر لتحدي المحافظة على الوسطية يتعلق بأزمة المفاهيم المحيطة بهذا المصطلح .

أي المفاهيم الشرعية التي وضعت في الأصل انسجاما مع سماحة الإسلام ومنهجه الوسطي في الدين والحياة تم تحريفها واستغلالها لأغراض خاصة.

والمفهوم كما يقول شيخي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه حفظه الله هو :عبارة عن بناء مركب له دلالة تصورية تسمح بإصدار حكم قيمي

ولذلك يرى أنه إذا اختل جزء من هذا البناء، فقد خاصيته وبطل توظيفه، لأنه قد يأتي بعكس النتائج المرجوة  ويشبه ذلك بالدواء الذي اختل فيه عنصر أو وُصف من غير طبيب أو لمريض لا يلائمه. [26]

ويقول الشيخ ما معناه: إن الأحكام الشرعية التكليفية - الوجوب والندب والحرمة والكراهة والجواز- محاطة بخطاب الوضع، وهو الأسباب وجودا  والشروط توفرا والموانع انتفاء، ومن مجموع خطابيّ التكليف والوضع يتشكل المفهوم الصحيح: فإذا فككنا الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع حدث الخلل.

ولذلك نحتاج ونحن نحاول أن نصحح بعض المفاهيم الملتبسة أن نعود إلى المدلول اللغوي والشرعي، وكذلك المقاصد والعلل المولدة للأحكام، والواقع والبيئة التي هي مجال التنزيل.

ومن أبرز المفاهيم التي يجب أن يصحح انحرافها عن التصور الصحيح لها : مفهوم الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفهوم الولاء والبراء، ومفهوم الطاعة، ومفهوم التكفير...إلخ

وهنا نتحدث عن مفهوم الجهاد لضيق الوقت ويمكن أن نقيس عليه بقية المفاهيم:

فالجهاد لغة: بذل واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل[27].ـوشرعا  نجد أن مفهوم الجهاد باستقراء النصوص الشرعية هو مفهوم واسع فهو يشمل  أنواعا مختلفة من العبادات الظاهرة والباطنة،  كالقتال في سبيل الله وبرور الوالدين وتلاوة القرآن والإخلاص لله، والتوكل عليه،والصبر، والزهد، وطاعة الله سبحانه.

غير أن المطالع لكتب الفكر المأزوم والمتابع لإعلامه ومواقعه يجد أن الجهاد منحصر في القتال فقط، وقد استطاع هذا الفكر أن يربط "الجهاد" بمعنى القتال في أذهان الكثيرين حتى لا يتصورون جهادا بغير قتال  بينما الحقيقة التي سنبرهن عليها بحول الله هي أن الجهاد ليس مرادفاً للقتال، ولكن بينهما علاقة عموم وخصوص، أي عموم من وجه، وخصوص من وجه. فليس كل جهاد قتالاً وليس كل قتالٍ جهاداً ولكن وباختصار قد يكون القتال أحد أفراد كلي الجهاد، إذ باستقراء النصوص الشرعية كما أشرنا، يتضح أن الجهاد يشمل  كل القربات: فبر الوالدين جهاد فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ففيهما فجاهد"([28])، وطاعة الله تعالى جهاد، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داوود في سننه عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل". ([29])

بل إن بعض السور التي ورد فيها الجهاد هي سور مكية بعبارة أخرى قبل أن يكون هناك حديث عن القتال كما في سورة الفرقان: ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا )[30]  يقول الإمام الطبري عند هذه الآية ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله   وقال سلطان العلماء العز با عبد السلام (وجاهدهم به) بالقرآن أو الإسلام[31] وقال فخر الدين الرازي رحمه الله عند  قوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[32]  من سورة العنكبوت المكية أيضا، قال رحمه الله: "أي من جاهد بالطاعة هداه سبل الجنة "

                وحتى الجهاد بمعنى القتال فيجب أن نحقق المناط فيه فالجهاد "القتال"هو دفاع عن حرية المعتقد)أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ٣(([33])، وهودفاع عن المستضعفين)وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا([34])(، وهو رد للعدوان)وَقَاٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠(([35]).

إن مفهوم الجهاد كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه:  كان في الأصل من أجل السلم والرحمة، ولكن المفهوم اليوم يستعمله أشخاص في غير محله وخلافاً لأصله فيفسدون في الأرض فساداً كبيراً لا يرضاه شرع ولا عقل.

وينبغي التأكيد أننا هنا لا نتحدث عن من يدافعون عن أرضهم ويقاومون المحتل الغازي ويجاهدونه، فهؤلاء هم فخر الأمة وهم المفضلون على القاعدين درجة.

ولكننا نتساءل  هنا كيف يدعي وصلا بالجهاد من لا يرى في الجهاد إلا قتل وترويع الآمنين وتحريش العدو وخلق الأعداء للأمة في لحظة هي أحوج ما تكون فيها للحلفاء.؟!

فهل يعقل أن يكون جهاد نبي الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم ما نشاهده اليوم من قتال وقتل عبثي وفتن عمياء لا تميز بين مذنب وبريء، ومحارب ومسالم ومسلم وكافر وعسكري ومدني وكبير وصغير؟!

هل يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رفض أن يدعو على من أخرجه من أرضه وشج وجهه الشريف وكسر رباعيته، وعفى عن الرجل الذي رفع سيفه ليقتله قبل أن يسقط السيف من يده؟! بل وعفى عن جيش بكامله وقال:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"..

هل يعقل أن النبي الذي تأسف على قرية نمل أحرقت وأنكر ذلك، ورق قلبه لقبرة أفجعت في فراخها وأمر بردهم إليها وأحس بألم  شاة مسكينة وهي ترمق السكين في يد  من يريد ذبحها قائلا له: "أفلا كان قبل هذا".

هل يعقل وهل يصح  أن يقدم هذا النبي والرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم للعالم  مفهوما يجعل الإنسان يقتل الإنسان بتلك الوحشية التي نشاهدها عبر قنوات الإعلام: ذبح ونحر وحرق !!؟...بل ما هو أفظع من ذلك.

تحدي المحافظة على المرجعية الفكرية المغاربية

إن الحديث عن المحافظة على المرجعة الفكرية المغاربية هو حديث ذو شجون لأن الباحث لايدرك هل سيتحدث بموضوعية إذا التزم بكلمة "المحافظة" التي تعني أن المرجعية لازالت قائمة وثابته أم هو مطالب بالحديث عن "استعادة المرجعية" في ظل التغيرات الكبيرة.

فمن المعلوم أن الحديث عن المرجعية الفكرية المغاربية هو حديث عن ما أسميه بالثلاثي الذهبي الذي اختصره العلامة عبد الواحد ابن عاشر في مقدمة نظمه:

(في عقد الأشعري وفقه مالك   وفي طريقة الجنيد السالك)

أي :العقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف الجنيدي أو ما يمكن أن نسميه بالتصوف السني.

أولا: الأشعرية

نسبة للإمام الأشعري إمام أهل السنة والجماعة الذي جمع بين العقل والنقل ووجدت طريقته " تلاميذ أقوياء يؤيدونها على أسس منهجية من العقل والمنطق فتبعه تلميذه بن مجاهد[36] في اقتفاء هذه الطريقة وأخذ عن ابن مجاهد تلميذه القاضي أبوبكر الباقلاني فهذب هذه الطريقة بأن وضع لها مايشبه النظرية المعرفية في المعرفة.[37] ثم جاء بعد الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي.[38]

وعمل الشافعية من أتباع الأشعري على تبني هذا المذهب العقدي من طرف المذهب الشافعي في الفقه وكذلك الحال مع المالكية والمتصوفة.

يقول الدكتور أحمد محمود صبحي: (كان معظم الأشاعرة شافعية ،وبين المذهبين اتساق في المواقف إذ توسط الإمام الشافعي بين أهل الحديث وعلى رأسهم الإمام مالك وبين أهل الرأي وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة ،كما حاول الأشعري أن يكون وسطا بين الحنابلة والمعتزلة ،أو بين أهل النقل وأهل العقل،وأنتشر المذهب بين المالكية منذ الباقلاني (ت403هـ) في المشرق وابن تومرت[39] (ت534هـ) الذي أحل الأشعرية محل الظاهرية في المغرب الإسلامي،وأصبحت "الأشعرية المالكية" مذهبا شبه رسمي في المغرب الإسلامي منذ قيام دولة الموحدين على يد تلميذ بن تومرت ومؤسس الدولة عبد المؤمن بن علي ، وكان يمكن أن ينضوي بعض الحنابلة تحت لواء الأشعرية مع ابن الجوزي، ولكن يبدو أن ارتباط الأشعرية بالصوفية كان حائلا دون ذالك "الارتباط الذي كان من أهم عوامل انتشار المذهب.)[40]

وكان لظهور الباقلاني ت403هـ في المشرق كحامل للواء الأشعرية أثر كبير في نشر مذهب الأشعري في المغرب والسبب في ذلك أنه كان إلى جانب أشعريته في الأصول ،مالكيا في الفروع لذلك أقبل عليه طلبة العلم من المغرب ،يأخذون عنه المذهب المالكي والطريقة الأشعرية في آن واحد .[41]

ثانيا: المذهب المالكي

وأما المذهب المالكي فيقول القاضي عياض : وأما أفريقية وما وراءها من المغرب فقد كان الغالب عليها في القديم مذهب الكوفيين، إلى أن دخل علي بن زياد وابن أشرس والبهلول بن راشد، وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك فأخذ به كثير من الناس ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون فغلب في أيامه وفض حلق المخالفين واستقر المذهب بعده في أصحابه فشاع في تلك الأقطار إلى وقتنا هذا"[42]

ويبقى أن من أهم مسببات دخول المذهب المالكي للمغرب ورسوخه لقرون بهذا البلد القوي والأبي، هو خصائصه الموضوعية التي تجلت بالخصوص في سعة أصوله وشمولية قواعده، مما منح هذا المذهب قدرة على استيعاب المتغيرات وضبط المستجدات. إلى جانب منزلة مؤسسه في قلوب المسلمين قاطبة، دون غض الطرف عن تميز مذهب الرأي (مذهب مالك) بالوضوح والمباشرة في معالجة النوازل وضبط عللها ومقاصدها برباط متين ومتسق،

إلى جانب مزج المذهب المالكي في أصوله بين ما هو نقلي وبين ما هو شرعي مراعيا في ذلك مقاصد الشريعة وما تعارف الناس عليه في معاملاتهم وشؤون حياتهم مما لا يتعارض مع النصوص الصريحة.[43]

ثالثا: التصوف الجنيدي

التصوف تجربة ذوقية وجدانية، وهو كغيره من العلوم له اصطلاحات ومفاهيم اختص بها في حقله المعرفي، تلك الاصطلاحات التي وسمها أهل الطريق-الصوفية- بالمقامات يتدرج فيها السالك، وبالأحوال تعتريه أثناء سيره في طريق الله عز وجل، وجعلها البعض الآخر- على رأسهم الجنيد رحمه الله تعالى- خصائص ومبادئ أقاموا عليها التصوف من حيث هو طريقة سلوكية قوامها التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل وملازمة الشريعة الإسلامية السمحة.

وكان الجنيد (المتوفى عام 297هـ) رحمه الله يرى مخاطبة الناس على قدر عقولهم، وأن الجواب يكون على قدر السائل لا على قدر المسائل، وكان يقول: "إن للعلم ثمنا فلا تعطوه حتى تأخذوا ثمنه، قيل له: وما ثمنه؟ قال: وضعه عند من يُحسن حمله ولا يضيعه". وقد بوب البخاري أحد أبواب صحيحه بهذا المعنى فقال: "باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا.

   فكان منهج الإمام الجنيد في تعامله مع "الحقائق" إبعادها على من ليست له أهلية تقبلها، بل الإنكارعلى من يفشي ذلك، مثلما ورد في قوله مُؤنِّبا الإمام الشبلي على إشاعته هذه العلوم بين العوام: "نحن حبَّرنا هذا العلم تحبيرا ووضعناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ".

   سيراً على هذا النهج، وعَملاً بقاعدة سدّ الذرائع، فقد اختار المغاربة في ممارستهم للتصوف المنحى السني الأخلاقي، ورمزوا له بالإمام الجُنيد الذي عُرفت مدرسته بمدرسة  السلوك والأخلاق في مقابل مدرسة الشطح والإغراق، هذه الأخيرة التي ركزت على البوح بما تُثمره المجاهدة من فتوحات وعلوم وهبية، في حين ركزت الأولى على تبليغ التجربة من خلال القيم ومكارم الأخلاق ، ومن تم ظلت غاية التصوف الأولى بالمغرب هي التحلي بالأخلاق المحمدية حرصا منهم على التسنن الأكمل، قولا وفعلا وحالا، بسيرة سيد المرسلين عليه أزكى الصلاة والتسليم... حتى قالوا: "التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخُلق، فقد زاد عليك في الصفاء".[44]

وقد  هذا الثلاثي مع أديان وفرق اسلامية أخرى في انسجام ووئام مع حالات استثنائية يقتضيها التفاعل البشري ولاكنها تظل الإستثناء من القاعدة العامة.

إلا أن تراجع المراكز التقليدية للإشعاع الفكري المغاربي: وهنا أقصد الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب، والمحاظر الشنقيطية في القرن الماضي أربك المشهد الفكري وصاحبه مد معاكس لتيار آخر يدعي أنه الممثل الوحيد لأهل السنة والجماعة وقد استطاع هذا التيار بفضل قدراته المادية أن ينشر فكره عبر وسائل عدة من بينها المنح الدراسية وتخريج دعاة من مختلف البلدان الإسلامية وكذلك الأشرطة والكتب التي ينفق عليها بسخاء هذا بالإضافة للجمعيات الخيرية والمعاهد الشرعية التي مافتئ يعرب عن استعداده لتمويلها ودعمها بكل مايلزم.

كما نجح  هذا التيار  في اختراق المراكز الفكرية المغاربية  والجامعات والمحاظر والمؤسسات الرسمية.

فلم نعد ندرس العقيدة الأشعرية مثلا أحرى أن نمتلك وسائل الدفاع والمحاججة عنها ..ولذا لم يعد ملفتا أن تشاهد باحثا أو عالما مغاربيا  يتحدث عن ما يسميها بالمراحل الثلاث التي مر بها الأشعري فمرجعيته في ذلك حتما هي الكتب المخالفة أو الإنترنت فهي تعج بالحديث عن هذه المراحل الذي يتضمن طعنا ضمنيا في المدرسة الأشعرية وكأنهم يقولون شيخكم عاد فعودا ؟!

عاد ولم ينتبه القاضي الباقلاني لذلك!، ولا إمام الحرمين الجويني!، ولا أئمة الحديث كالنووي وابن حجر!، ولا سلطان العلماء العز بن عبد السلام ولا أصحاب التراجم!،عاد عن مذهبه وغابت عن أولئك وغيرهم  واكتشفها "سلفية القرن الرابع عشر" ليرويها عنهم باحث موريتاني في قناة موريتانية :إنه البحث الأعرج !

ولم يعد مستغربا أن يتطاول شاب على علماء المالكية أو يكفر الصوفية  والأشعرية ويصفهم بأبشع الأوصاف.

ومن حصاد  هذا الفكر الوافد: دوى صوت الانفجارات في عدة نواحي من المغرب الكبير  واستبيحت الدماء.

وقد توصلت في دراسة استقصائية قمت بها في كتابي :التصور الإسلامي لمواجهة التطرف "المقاربة الموريتانية نموذجا"

إلى أنه لايوجد ضمن المشمولين في ملفات تتعلق بالارهاب والغلو والتطرف من لازال يتمسك بالمرجعية المغاربية فإما أن يكون درس خارج الحيز الجغرافي للمرجعية الفكرية المعروفة وإما أن يكون تبنى الأفكار الوافدة إلى هذا الحيز .

فباختصار شديد لايوجد "أشعري مالكي صوفي" واحد  ينخرط في الجماعات المسلحة .!؟

ما يعني أن تفريطنا في مرجعيتنا الفكرية التي شكلت سدا منيعا أمام موج التطرف الهادر  ردحا من الزمن، هو السبب الأول لما وصلنا إليه .

فكاد الموج أن يجرف بعض بلداننا كليبيا مثلا ! ولن نستطيع ترميم سد المرجعية الفكرية والمحافظة عليه   إلا إذا تضافرت جهود الدولة والعلماء والدعاة وشيوخ المحاظر .

فمن واجب دولنا وحكوماتنا أن تعيد النظر في المناهج التعليمية لتعرف مدى مطابقتها لهذه المرجعية وكذلك المؤسسات الشرعية والدعوية العشوائية  فمن غير المنطقي أن يقوم كل من هب ودب بفتح مؤسسة وتنصيب نفسه شيخا، وكذلك من واجب الدولة أن تراقب وسائل الإعلام وماتبثه من غلو في الجانبين.

خلاصة

وكخلاصة أأكد أن مسؤولية المؤسسات والمرجعيات الدينية كبيرة في هذه الفترة بالذات، وإن التكلفة البشرية والإنسانية "لا يمكن أن تترك أي شخص متفرجاً .

ومن الواجب شرعاً أن يقوم العلماء والحكماء ببذل الجهد لتصحيح المفاهيم وكشف مغالطات الفكر المأزوم وإطفاء نار الفتن، والسعي في الإصلاح امتثالاً للأمر الإلهي العظيم (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)

والله الموفق

ولن تستطيع تلك المؤسسات أن تحقق أهدافها إلا إذا تضافرت جهودها مع إرادة الحكومات وقناعتها بضرورة المحافظة على المنهج الوسطي والمرجعية الفكرية الغاربية كشرط لاغنا عنه لاستقرار المنطقة .

21. فبراير 2018 - 0:53

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا