إن عقوبة الأذكياء الذين يرفضون الانخراط في العمل السياسي أن يحكموا بواسطة الأغبياء. والسياسة في أحد معانيها هي: فن تأجيل القرارات حتى تصبح بلا جدوى، وهذا عين ما تفعله الأغلبية البائسة والمعارضة العاجزة عندنا في شأن رئاسيات 2019م.
وألبرت أينشتاين يقول: السياسة هي البندول الذي يتأرجح بين الفوضى والطغيان وتغذيها بأوهام متجددة على الدوام، وسئل يوما الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور،
عن سبب زوال دولتهم وضياع ملكهم فقال:"أمور كبيرة أوليناها الصغار، و أمور صغيرة أوليناها الكبار، وأبعدنا الصديق ثقة بصداقته، وقربنا العدو اتقاء لعداوته، فلم يتحول العدو صديقا، وتحول الصديق عدوا، فضعنا ما بين الإفراط والتفريط؟".
وفي الحكمة العربية قال فقيه المالكية القاضي عبد الةهاب:.
متى تصل العطـاش إلى ارتواء *** إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثنى الأصاغر عن مراد *** وقد جلس الأكابر في الـزوايـا
وإن ترفــع الـوضـعـاء يوما *** على الرفعاء من إحدى البلايا
إذا استوت الأسـافـل والأعالى *** فقد طابت منادمة المنايا .
وفي علوم السياسة وعند الفرنسيين بالذات، أن السياسي الناجح هو الذي يملك القدرة على التنبؤ بالمستقبل ويضع الحلول لمشاكله والأجوبة على أسئلته، وكان ونستون تشرشل يقول: يجب أن يكون لدى السياسي القدرة على التنبؤ بما سيحدث غدا أو الأسبوع المقبل، الشهر المقبل، والعام القادم. وأن يكون لديه القدرة بعد ذلك ليشرح للناس لماذا لم يحدث ذلك، ونحن ساستنا في المعارضة والموالاة عاجزون عن الفعل وغير قادرين على التبرير ولا معنيين بإيجاد الحلول ووسائل الإقناع التي يبدوا أنهم لا يمتلكونها علميا وعمليا .
الحق الواضح الذي يتحدي كل الفعلين والمتحاورين والرافضين للحوار، لرجال السياسة وللجنة تفعيل حزب الاتحاد من أجل... وللمنتدى الوطني.. ولقوى التغير على حد سواء، أننا في هذه اللحظة بحاجة إلى واقع عملي يهيئ للانتخابات، ولابد أن يكون واقعا تحكمه مواثيق ملزمة لبيان مفهوم الدولة، ومؤسساتها، وسلطاتها، ونظامها الإداري، وإبراز قواعد الحكم الرشيد، وبيان أسسه، والتي تعتمد في الأساس على سيادة القانون وتوازن السلطات، والشفافية، ومكافحة الفساد، وعلمية وصرامة الرقابة المالية والإدارية على مؤسسات الدولة بكل مستوياتها، وإجلال واحترام النظام الديمقراطي، والمشاركة السياسية المبنية على حرية الرأي والتعبير، وحق الحصول على المعلومة، وحماية الوحدة الوطنية والأمن القومي، والسيادة الوطنية، ووضع الأسس لبناء الجيش الجمهوري الوطني، وإبراز دوره كحام للحوزة الترابية لا حاكما في السياسة، وبناء المؤسسات الأمنية على قواعد تحقيق الأمن للوطن والمواطن، وأساسا للاستقرار، وتحريرها من العبودية العمياء للحاكم، باعتبار ذلك منافيا لأصل وجودها ولمفهوم الأمن والأمان في الدولة الحديثة، ومتطلبات الأمن والاستقرار في ظل العولمة الضاغطة وتأثيراتها الفاعلة جدا في أنماط الحياة ومفاهيم السياسة المأزومة والفاقدة للبوصلة عندنا، والتي نتفق فيها على أن البلد يعيش أزمة حادة تهدد كيانه ووجوده، بسبب عجز وفشل قادة الحكم والسياسة والرأي في الموالاة والمعارضة على حد سواء.
السياسة مشتقّة من كلمة ساس ويُقال سَاسَ القوم أي دبّر شؤونهم أو اعتنى بهم وبأوضاعهم من النواحي الاجتماعية أو الاقتصادية وغيرها، مع العمل المتواصل على حلّ مشاكلهم ونزاعاتهم بالطرق السلمية، والتخطيط الدائم لإيجاد مستقبل لهم أفضل يأخذ بعين الاعتبار حاجتهم في كل متطلبات الحياة آخذا بعين الاعتبار كل المستجدّات الراهنة والتطوّرات الحاصلة في النواحي العلمية والفكرية والتقنية وغيرها.
والسياسة كما يعرّفها القاموس هي"کعلم الدولة ولغة القيام بشؤون الرعية"، ويعتبر أرسطو من مؤسسي هذا العلم في كتابه"السياسة"الذي بحث فيه نظام المجتمع الإنساني مبتدئاً بالأسرة، وهي الخلية الاجتماعية الأولى، ثم المدينة، فالدولة، من حيث علاقتها بالأفراد وبالدول الأخرى، وهذا ما يعرف بالسياسة المدنية والسياسة الدولية.
وكذلك فعل أفلاطون عندما اعتبر أنّ العلم ليس حكراً على الآلهة، وأنّ الحقائق الفيزيائية هي علم قائم بذاته.
ويمكن القول أنّ أرسطو وأفلاطون شهدا على إدخال مفهوم جديد في السياسة قوامه مقدرة الناس على حكم أنفسهم إذا ما طبّقوا المبادئ العقلانية، فأصبح علم السياسة قائماً على العقلانية والعلم الذي يساعد على تحسين الممارسة السياسية، مع الأخذ بتوجّهات الناس وأولوياتهم والمثل العليا والتقاليد الاجتماعية والسياسية معا.
أمّا العرب فقد استخدموا لفظة السياسة بمعنى الإرشاد والهداية، وقد وضعوا لهم في علم السياسة أصولا ومناهج وكتباً لعلّ من أقدمها وأبرزها كتاب"تهذيب السياسة" للأهوازي، ثم تتابعت كتب السياسة الشرعية.
ودراسة السياسة تشمل بطبيعة الحال نظام الدولة وقانونها الأساسي ونظام الحكم فيها ونظامها التشريعي، ونظم السياسية في العالم والمبادئ التي استمّدت وجودها منها.
ويتّضح مما سبق أنّ السياسة هي الاشتغال بإبراز وتطوير العلاقة المباشرة بالشأن العام والأنظمة والقوانين والتخطيط بكل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعلمية والأخلاقية، وحتى على مستوى العلاقات بين الأفراد، فكل هذه الأمور والشؤون لها مفاعيلها ومردودها السلبي أو الإيجابي على النظام السياسي المعتمد.
ونظراً لخطورة وحيوية وتعدّد مهام السياسة وشؤونها، فإنه يتوجّب على من يمتهنها أن يكون مؤهلا ومتقنا لفنونها ووفق المعايير الدقيقة التي تتناسب مع أهمية العمل السياسي الذي يقود ويتفوق أهمية على أيّ عمل آخر{وإني عليه لقوي أمين}.
ومفهوم الدولة المدنية المعاصرة يجعلها ملزمة بأن تخضع للقانون ولحقوق الإنسان العامة، والمشاركة السياسية البرلمانية، وفصل السلطات، ومحدودية تدخل الدولة في الشؤون الخاصة للناس .
ولا شك أن الوعي الجماهيري أصبح عاما، ولا يمكن لأي حزب أو تيار مهما كان حجمه وموقعه أن يفرض رؤاه ما لم يعزز من قيمة الحريات الخاصة وحق المبادرة والتنمية الشاملة، وإلا فإن الثورة الشعبية على الأبواب، الأمر الذي يحتم على أي حزب أو تيار أن يخلق أرضية مقبولة لبرنامجه السياسي الذي يستجيب لتطلعات الشعب ويرضى عنه، وأن يكون البرنامج مستجيبا لكل حاجيات الشعب ومختلف شرائه وتشكيلاته ومكوناته، وأن يكون كذلك خاضع لشروط المرحلة والتي تتسم بالشرط الديمقراطي لتدوير الرئاسة، والتبادل السلمي على السلطة، وتولية أهل الاختصاص، والكفاءة والأمانة للمسئوليات العامة والابتعاد كليا عن ما أسماه ابن خلدون بحكم العصبية الفاسدة التي بها زوال الحكم وأساببه.
سألت مرة الراحل بجسمه الكبير بقيمه وعطائه وإبداعه الشاعر والأديب محمد كابر هاشم- رحمة الله عليه- فقلة له الأستاذ أنت قامة كبيرة في السياسة والثقافة والإبداع الشعري والأدبي، وحتى المكانة الاجتماعية، ومن أول من أعلن ولاءه للعقيد ولد الطائع ومدحته بشعر ونثر، ولم تبوأ مكانة سامية في الدولة ولم تعين حتى في منصب إداري ذي أهمية، والسياسة هنا قطعا ليست عملا لوجه الله والدار الآخرة والمعروف كذلك أنها ليست فيها صدقة السر، فما السر في عدم تعينك؟!
فضحك رحمه الله وقال لي: هناك دائرة هي التي من دخلها يصبح مهيئا لصدفة وعشوائية الاختيار مسئولا ولدخول تلك الدائرة شروط لا تتوفر في، من أهمها: أن يتخل الإنسان عن كل شيء من قيمه وأخلاقه وذاتيته، وحتى طموحاته الشخصية وفق قيمه ومبادئ فكره، وهذا ما لم أستطع فعله ؟.
إنه الوصف الدقيق لعلة دولتنا ومظاهر وحجم الفساد المطبق في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية الأخطر، والذي تجسد مظاهره وآثاره أوج أزمتنا السياسية والأخلاقية والتنمية بشكل عام، والفساد الإداري كما يعرفه خبراء الإدارة هو (الاتجار بالوظيفة العامة وإساءة استعمال الوظيفة العامة والاعتداء على المال العام) أو الإهمال في حماية وصيانة المال العام ومصالح الدولة وحقوقها.
فالفساد هو (سائل هلامي نتن الرائحة والذي لا يختلف كثيراً عن الإرهاب)، فكلاهما يعمل لمصالح فردية على حساب الوطن، والفارق بينهما أن الأخير تظهر آثاره سريعاً، بينما الفساد يعمل في الخفاء وتستيقظ الأمم على آثاره المدمرة في كل جوانب الحيات كالتعليم والصحة والخدمات، والكيانات السياسية والمدنية للمجتمع كما هو حالنا الظاهر لكل مراقب ومتابع، فعند ما يتحصن الفساد بالنظام الفاسد في تركيبته وممارسته ليحميه، تصبح شعارات محاربة الفساد فيه نوعا من أخطر مظاهر الفساد لما يصاحبها عندئذ من التزوير والتضليل والتمويه، عوائق التنمية وموانع مكافحة الفساد، فمكافحة الفساد تبدأ بتحديد حجمه أولا في القطاع العام، ثم في الخاص، ومعروف أن أسرع الطرق إلى ذلك هو استطلاع آراء العاملين في القطاعيين العام والخاص، فإذا كان العملين في القطاعين العام والخاص فاشلين وعاجزين وخائفين وفاسدين، فكيف ستكون عندئذ عملية محاربة الفساد، خاصة إذا كان كما يقال حاميها هو أحراميها ؟
الفساد الإداري هو سوء استخدام السلطة العامة من أجل الحصول على مكسب خاص يتحقق حينما يتقبل الموظف الرسمي الرشوة أو يطلبها أو يستجديها أو يبتزها..!
وقد عرفه البعض بكونه استغلال الموظف العام لموقع عمله وصلاحياته للحصول على كسب غير مشروع أو منافع شخصية يتعذر تحقيقها بطريقة مشروعة أو أنه سلوك غير رسمي وشرعي تفرضه ظروف معينة وتساعد عليه ويقتضيه التحول الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي..
وظاهرة الفساد في مجتمعنا ومؤسسات دولتنا ظلت تحكمه مجموعة من العوامل الفاعلة والمتداخلة والمتفاعلة فيما بينها وهذه العوامل تمثل بطبيعتها المباشرة وغير المباشرة الجذور الأساسية التي تنبت عليها فروع وأغصان(شجرة الفساد الخبيثة) ومن ابرز تلك العوامل ما يأتي:
أولا: السياسة: لاشك أن الفساد السياسي الذي عرفته مؤسسات الدولة في ظل الحكم العسكري القبلي هو الذي أدى ويؤدي إلى خلق ظاهرة الفساد، وذلك انطلاقاً من فساد النظام السياسي الحاكم (المنتخب) والمتسلط أو السلطة، وخلاصة تلك العوامل هو فرض منهج المحاباة من خلال تدخل النخب والأحزاب في عمل أجهزة الدولة.
ثانيا: العوامل الاقتصادية: وتتمثل بداية في انتشار الرشوة وإفساد موارد البلد، وسوء التخطيط للعملية التنمية الاقتصادية، واستخراج واستثمار الموارد الطبيعية، من غير تطبيق لأسس العملية وغياب دراسة الجدوى لأغلب المشاريع وسوء توزيع الثروة وتدني في مستوى الدخل الفردي.
ثالثا: العوامل الاجتماعية والثقافية: ففي بنية مجتمعنا الكثير من القيم وأطر البناء الاجتماعي والتي تشكل في مجموعها أهم العوائق لبناء نظام أو جهاز إداري متطور مثل (الولاء للعشيرة والطائفة والقبيلة، والزعيم)، مقابل (ضعف الولاء للوطن! كل ذلك يتسبب عمليا بممارسات غير عادلة وغير أخلاقية مثل المحاباة في إنجاز الأعمال والتفرقة في تقديم الخدمة لأفراد المجتمع، ومن المعلوم أن انعدام المساواة الاجتماعية هي سمة بارزة في مجتمعنا، وهي ناجمة بطبيعتها عن تفشي التخلف الثقافي وتدني مستوى التعليم، بل وحتى غيابه وضياعه وكساد الموجود منه.
رابعا: العوامل التنظيمية (الإدارية)، ويمكن إيراد خلاصة لها من خلال تشخيص أمراض المركزية والبيروقراطية المفرطة وضعف أجهزة الرقابة وفسادها وتخلف الإجراءات الإدارية وعدم مواكبتها لروح العصر وحاجات المجتمع فضلاً عن ضعف سياسات التوظيف وفسادها وعدم الأخذ بنظرية وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
خامسا: عوامل خارجية أو ما يصطلح عليه بالفساد العابر للحدود، وقد شهدت البلاد في العشرين سنة الماضية شيوع تلك العوامل وقوة تأثيرها على كل مستويات الحياة، وعلى نحو واسع ومؤثر جدا، وعلى أية حال فأنه يغدو من المستساغ التمييز بين ثلاثة اتجاهات يسير بمقتضاها تعريف الفساد الإداري جنباً إلى جنب مع العوامل المذكورة آنفاً:
أول: هذه الاتجاهات ينظر إلى الفساد بوصفه انحرافاً عن مسؤوليات الوظيفة العامة مثل ذلك الرشوة وعطاء المناصب لغير مستحقيها وسوء توزيع الموارد على البلاد والعباد.
الثاني: ينظر إلى الفساد كتطبيق لنظام السوق أو المشروع الاقتصادي وهذا الاتجاه قائم على أساس إدخال منطق المتاجرة والسوق على الوظيفة العامة ويتجسد شكل الفساد فيه عندما ينظر الموظف العام إلى منصبه (كمشروع اقتصادي) من حقه استثماره والحصول على أكبر عائد منه.
أما الاتجاه الثالث للفساد بوصفه خروجاً عن مفهوم المصلحة العامة وتغليب المصلحة الخاصة والاتجاهات المذكورة أعلاه لا تخرج بدورها عن أنواع الفساد الإداري التي يمكن حصرها كالآتي:
الفساد العرضي وهو الفساد الذي يحدث عند قاعدة الهرم الحكومي من قبل صغار الموظفين ويعبر غالباً عن سلوك شخصي أكثر منه تعبيراً عن نظام عام كحالات الاختلاس على نطاق محدود أو تلقي الرشوة الخفيفة أو سرقة أدوات مكتبية وما إلى ذلك.
الفساد المنظم أو النظامي: وهو الذي يحث حين تتحول إدارة المؤسسات الدولة والمجتمع إلى إدارة فاسدة بمعنى أن يدير العمل برمته شبكة عاجزة وفاشلة ومترابطة بالفساد يستفيد ويعتمد كل عنصر منها على الآخر، ويمارس هذا النوع من قبل القمة المتربعة على رأس الهرم الوظيفي ويشمل الفساد السـياسي: أي السلوك السياسي الفاسد والمخالف للقانون واستخدام المال العام لتحقيق أهداف معينة من خلال التأثير في العملية السياسية ويتجلى في فضائح الحملات الانتخابية.
والبنك الدولي يرى: أن مكافحة الفساد تبدأ بعناصر خمسة، منها: صناعة قطاع خاص منافس من خلال إصلاح الأنظمة لتسهيل دخول منافسين جدد للسوق، وتطوير الواقع الإداري في القطاع العام من خلال التخفيف من مركزية اتخاذ القرار، وزيادة مشاركة المجتمع في مكافحة الفساد من خلال رفع الوعي وإعطاء حرية أكبر للإعلام لمناقشة قضايا الفساد، وهذا ما تستنكف عنه تماما حكومة العجز والفشل والتضليل التي تدير شأن البلد ؟.