إن نظرية المرض الهولندي Dutch disease قد لا تنطبق بشكل تام على الاقتصاد الموريتاني لكن الأعراض المرتبطة بهذا المرض منتشرة فيه بشكل واضح، فنسبة الصادرات من المواد الأولية (الحديد، النحاس، الذهب، النفط والصيد) تتجاوز 90% من إجمالي الصادرات، ومازال هذان القطاعان (الاستخراجي والصيد البحري) يشكلان المصدر الرئيسي للدخل وإيرادات المالية العامة. في حين يعرف قطاع الصناعات التحويلية تدني في الانتاجية وضعف في التنافسية رغم كل السياسات والاستراتيجيات التي تبنتها الحكومة.
إن الأهمية التي اولتها الحكومات المتعاقبة للثروات الطبيعية أدت في الكثير من الأحيان إلى تجاهل باقي القطاعات المنتجة كالزراعة والصناعة والخدمات.
فعلى الرغم من الايرادات المالية المهمة المتأتية منها والتي ساهمت بشكل كبير في إنجاز مشاريع اقتصادية واجتماعية كثيرة، الا أن الاعتماد عليها يجعل هذا الاقتصاد هشّا وعُرضة للآثار السلبية لتقلبات الاسعار وتراجع الطلب على هذه المادة أو التوجه إلى مواد بديلة، مما ينجم عنه اضطراب على مستوى الموازنة العامة للدولة والاستقرار المالي وكذلك النمو الاقتصادي. من هنا يظهر ضرورة التوجه نحو التنويع الاقتصادي وإعادة هيكلة الاقتصاد ورفع مستوى مساهمة القطاعات الاقتصادية المختلفة في الدخل وذلك ببناء قاعدة عريضة من المنتجات المحلية والمصدرة لا يعتمد فيها على مصدر واحد.
رغم الجهود المبذولة منذ مدة في سبيل التنويع الاقتصادي الا ان النتائج مازالت بعيدة من المستوى المطلوب وما زال الشركاء الدوليين ينادون بانتهاج تلك السياسة بوصفها الأنجع في مواجهة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي.
ففي بيانه الصحفي رقم 248/ 12 الصادر بتاريخ 2 يوليو 2012 والمتعلق بالمراجعة الرابعة في ظل اتفاق «التسهيلٌ الائتماني الممدد" مع موريتانيا أكد المجلس التنفيذٌي لصندوق النقد الدولي على ضرورة إجراء إصلاحات هيكلية من شانها العمل على تنويع النشاط الاقتصادي بعيدا عن الصادرات السلعية.
وفي ختام مشاورات المادة الرابعة لعام 2016 أثنى المديرون التنفيذيون للصندوق على السلطات الموريتانية لسياساتها الداعمة الاستقرار الاقتصادي الكلي في مواجهة الصدمة السلبية لكنهم حثوا السلطات على تنشيط الإصلاحات الهيكلية لتعزيز التنويع الاقتصادي والنمو الاحتوائي. وذكر المديرون أن صدمة معدلات التبادل التجاري بينت ان التنويع الاقتصادي وزيادة الانتاجية أصبح حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى.
أما البنك الدولي فقد جاء خلال المؤتمر الصحفي الذي نظمه ألبرت زيفاك كبير اقتصادييه لمنطقة أفريقيا بنواكشوط يوم 27 فبراير 2017 في ختام مهمة له أن” النمو القائم محصور في المواد الأولية، وأنه غير قابل للاستمرار على المدى الطويل نظرا لتقلبات الأسعار العالمية وأن المؤسسة المالية الدولية على استعداد لتقديم الدعم للحكومة الموريتانية في التحول وتنويع الاقتصاد الوطني “
في هذا المقال سنتعرض لبعض المخاطر والاثار السلبية التي يخلفها اعتماد الاقتصاد على مادة أولية واحدة او عدد محدود من السلع كما هو الحال عندنا. يتعلق الامر بمادتي الحديد والسمك بصفتهما يشكلان المصدران الأهم في تمويل الميزانية ويعتبران من أبرز عناصر الدخل وتكوين الناتج الداخلي الخام، إضافة الى كونهما الرافدين الأساسين لاحتياطيات البنك المركزي الموريتاني من العملات الأجنبية. كما سنتناول بالبحث آليتي زيادة العائدات الضريبية والقروض الاجنبية التين اعتمدتهما الحكومة لمواجهة وتمويل عجز الميزانية.
وأخيرا سنتعرض بالتحليل لبنية الصادرات الموريتانية على مستوى المواد والأسواق ومؤشري التنويع والتركُز فيهما ومدى نجاح جهود السياسة المتبعة في سبيل تحقيق التنويع الاقتصادي، وأبرز المتغيرات التي تلعب دورا مهما في نجاحها أو فشلها.
ان الهبوط الحاد لسعر الحديد الخام الذي بلغ (-28%) سنة 2014 و(-59%) سنة 2015 مقارنة ب 2013 ساهم بشكل كبير في تباطؤ النمو الاقتصادي كما جاء في التقرير الصادر بتاريخ 11 مايو 2016 عن بعثة صندوق النقد الدولي، حيث أشار التقرير ان تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي (PIB) الى حدود 2% بعد أن كان 6.6% سنة 2014، يعود في جزء كبير منه إلى ضعف هبوط أسعار المعادن الدولية. وجاء في التقرير أنه بالرغم من زيادة الإيرادات التي تحققت نتيجة عدم تعديل أسعار الطاقة المحلية في مقابل هبوط أسعار النفط الدولية إلى جانب فرض بعض القيود على الإنفاق الجاري إلا أن عجز المالية العامة (باستثناء المنح) شهد تدهورا نتيجة تراجع العائدات المعدنية.
أدى هذا التراجع في أسعار الحديد إلى فقدان ما يقارب 46.3% من قيمة صادرات الحديد سنة 2014 و50.1% سنة 2015، مما انعكس بشكل مباشر على الصادرات الكلية للبلد التي تراجعت حصة الحديد فيها الى 24% سنة 2015 مقابل 38% سنة 2014 ومعدل 50% خلال الفترة 2011-2013.
بلغت مساهمة الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (سنيم) 20.4% من إجمالي الإيرادات الحكومية كمتوسط خلال السنوات الثلاثة التي سبقت هبوط أسعار الحديد عالميا (2011، 2012 و2013)، وهي نفس النسبة، تقريبا، (20.02%) التي ساهم بها قطاع استخراج الحديد في الناتج المحلي الخام خلال الفترة نفسها.
وفي سنة 2014، التي عرفت تراجع سعر طن الحديد ب (-28%) مقارنة بالسنة السابقة هبطت نسبة مساهمة سنيم في تغذية ميزانية الدولة لتصل الى 16,8% بينما تراجعت مساهمة قطاع استخراج الحديد في الناتج المحلي الإجمالي الى النصف مقارنة بسنة 2013.
اما بالنسبة لسنة 2015، فقد ازداد الوضع سوءا وعرف تدهور سعر الحديد العالمي مستويات قياسية بلغت نسبته (-%42) وهو الأدنى له منذ 10 سنوات. وقد انعكست تلك النتائج على الإيرادات الحكومية المتأتية من سنيم وانخفضت من 70.92 مليار (أوقية قديمة) سنة 2014 الى 7.53 مليار فقط سنة 2015، أي بتراجع قدره (-89%)، وفيما يتعلق بالناتج المحلي الإجمالي فقد تراجعت مساهمة القطاع ب (-76%) مقارنة ب 2014.
في سنة 2016 عرفت أسعار الحديد انتعاشا طفيفا، حيث بلغ سعر الحديد 58.49 دولار للطن وهو ما يمثل زيادة قدرها 4,7% مقارنة بأسعار 2014. هذا التحسن انعكس إيجابا على مداخيل الدولة من سنيم التي ارتفعت هي الأخرى ب 2.66 مليار (أوقية قديمة).
اما سنة 2017 فقد عرف سعر الحديد فيها الكثير من التذبذب (شهريا)، الا انه حافظ على الزيادة في الغالب حيث بلغ 71.76 دولار للطن كمتوسط سنوي. وقد عرفت إيرادات الخزينة من سنيم خلال الفترة الممتدة من يناير الى أكتوبر2017 زيادة قدرها 89% مقارنة بنفس الفترة من 2016، الا انه بالرغم من ذلك فمازالت هذه المداخيل بعيدة من المستوى الذي كانت عليه قبل تدهور الأسعار.
إن تراجع أسعار الحديد إلى هذه المستويات المتدنية قد لا يكون نهاية المطاف، إذ تشير بعض التوقعات الى احتمالية ان يظل سعر الحديد منخفضا نتيجة تراجع الطلب العالمي. وبصفة أخص، الصين التي أعلنت اعتزامها خفض الإنتاج بنحو 100 مليون طن حتى العام 2020 بعد الضغوط العالمية التي مورست عليها. هذا في حين تذهب آراء أخرى الى أن دخول الهند الى نادي (الأربعة الكبار+ الصين) سيزيد من المنافسة مما سيدفع بالأسعار الصعود من جديد.
ومهما يكن، فانه من المؤكد أن تراجع أسعار الحديد، او تقلباتها على الأقل، يخلف ضررا وآثارا سلبية على الاقتصاد الوطني لا يمكن إغفالها. فالمتتبع لحجم العائدات المنجمية ومساهمتها في كل من الإيرادات الحكومية بشقيها الجبائي وغير الجبائي والناتج الداخلي الخام يدرك مدى الحساسية والحرج اللذين يخلفهما ذلك التذبذب.
في مواجهة مثل هذه الأجواء من عدم اليقين يتعين بناء القدرة على تحمل الصدمات التي يخلفها هبوط أسعار الحديد. والموارد العامة القوية هي إحدى آلات بناء مثل هذه القدرة.
جاء ذلك في الكلمة التي ألقتها كريستيان لاغارد مدير عام صندوق النقد الدولي بمناسبة مشاركتها في المنتدى الثاني للمالية العامة في الدول العربية المنعقد 12-02-2017 في دبي. وأضافت لاغارد أن غرس بذور اقتصاد سليم واحتوائي يعود بالنفع على جميع المواطنين يستدعي وضع نظم ضريبية على أعلى درجة من التطور تمكن البلد من توليد إيرادات حكومية وإيجاد الموارد اللازمة لمعالجة التحديات المستقبلية على نحو يتسم بالكفاءة والمساواة.
وقد اتخذت السلطات المالية بعض الإجراءات من اجل مسايرة الظروف الصعبة التي خلفها انخفاض أسعار المعادن، تمثلت في العمل على التحسين من مستوى التحصيل وزيادة بعض الضرائب واستحداث ضرائب اخرى لم تكن موجودة، رأى فيها البعض غياب مبدا العدالة الذي هو أحد المبادئ التقليدية للضريبة.
الا ان هذا المفهوم يظل نسبيا، فما تراه الدولة عادلا وضروريا من اجل القيام بمسؤولياتها لا يقابل بالرضى والقبول من الطرف الاخر، بل يصفه بالإجحاف والتجويع ويرى أن الدولة أصبحت، في كثير من الأحيان، تفرض الضرائب للحصول على السيولة النقدية لمواجهة الأزمات وان هذه الضرائب لا تسلك مسارها الصحيح الذي يصب في تعزيز النمو. وبالتالي يتفشى التهرب والامتعاض من دفع الضريبة مما يؤثر سلبا على عملية التحصيل تحصيل الضرائب الت وصفها وزير سابق للمالية الفرنسية بأنها اشبه ما تكون بنتف ريش الإوزة، فانت ترغب في الحصول على أكبر قدر من ريشها وأقل قدر من صراخها. ولن يتأتى ذلك (الحد من الصراخ) إلا بخلق الثقة في سلوك الحكومة تجاه صرف العائدات الضريبة...
يتواصل