جاءت الرسالة الإسلامية الخاتمة، وهي خلاصة رسالات الله إلى الناس كافة، وكلمته الأخيرة إلى الثقلين، جاءت رحمة للعالمين، كل العالمين؛ فاستنقذت الإنسان من ضلال الوثنية والعبودية للطاغوت والهوى والشيطان، فضلا عن واقع الذل والهوان، ووصلته بالمثل العليا والقيم الفاضلة، واختصته بالتكريم والاصطفاء بين مخلوقات الله، و صانت دمه وماله وعرضه، ولم تترك بينه وبين الله الواحد الأحد الفرد الصمد، وسيطا من أي نوع؛
وعلى تلك المبادئ السامية، وانسجاما مع شريعة الله وصراطه المستقيم، نبتت حضارة إنسانية راقية وارفة الظلال، شكلت على مدى أربعة عشر قرنا، مأوى وملجأ وهوية وظلا ظليلا للإنسان بكافة أقوامه وألوانه وأجناسه، ومن أتباع مختلف الملل والنحل والديانات، واستوعبت واحتضنت وطورت وأضافت إلى كل الثقافات واللغات والتراث الإنساني؛
تلك حقيقة ويقين راسخ لدى الغالبية العظمى من المسلمين، ومعهم المنصفون من عقلاء العالم، بحيث لا يشكل الاختلاف حول بعض التفاصيل، عائقا أمام الإيمان به على وجه الإجمال؛ لكن، ومع هذا الإيمان الجازم، فإن أبناء تلك الرسالة والحضارة، دهتهم داهية صرفتهم بعيدا عن مقتضيات قيمهم ومثلهم ومبادئهم وشرائعهم؛ فلا ينكر أحد من المسلمين اليوم، ولا معنى لإنكاره إن أنكر، أن موجة عاتية وغير مسبوقة، من الغلو في الدين، والتطرف في الأفكار والرؤى، والإرهاب الدموي المدمر، تجتاح حاضر أمتنا، وهي تكابد- بين العثرات- النهوض من الكبوة الحضارية الطويلة، وقد بهرتها أضواء الإنجازات العلمية لحضارة الآخر؛ وقد أزهقت تلك الموجة آلاف الأرواح، وأتلفت المليارات، ودمرت معالم ومنجزات الحضارات البشرية، وسعَّرت بين الغلاة والبغاة والغزاة حربا عبثية، لا تكاد تخبو هنا، حتى تشتعل هناك، حربا فيها الكل عدو للكل، ولا منتصر فيها ولا مهزوم!!
عوامل وأسباب هذه الموجة من التطرف العنيف، والإرهاب المدمر، لم تخضع للدراسة العلمية المحايدة، فظلت- على الرغم من عمرها المديد نسبيا، ومن حجم نتائجها الكارثية، ومن انشغال القوى العظمى والمجتمع الدولي والعالم كله بوقائعها وتفاصيلها- بعيدة عن أي اتفاق بشأنها، تماما كما هو الحال بشأن تعريف جامع مانع، متفق عليه للظاهرة نفسها؛ لكأنما اقتضت إرادة فاعلة في المجتمع الدولي أن يظل مفهوم الإرهاب، ومثله عوامله وأسبابه، مائعا، مرنا، طيعا، قابلا للتكييف؛ ومع ذلك فقد بات واضحا لكل ذي عينين، أن الاحتلال والتدنيس الصهيوني لبيت المقدس وكامل فلسطين، والاحتلال الغربي لأقطار عدة، في العالم الإسلامي، واستبداد النظم المدعوم من الغرب، وتشجيع الانقلابات العسكرية؛ فضلا عن تغييب المبادئ والمثل والشرائع الإسلامية عن واقع المسلمين، وسلبية المناهج، وانتشار الأمية، واستشراء الفقر والهشاشة المستدامة، كل ذلك مثل تربة خصبة لإنبات الظاهرة.
في الغرب فإن أفظع الجرائم وأشدها فتكا وتدميرا، لا تعتبر إرهابا، ما لم تكن من فعل مسلم؛ حتى ولو كانت مجازر الأطفال في مدارسهم؛ فعندما يتحدث الغربيون ودوائرهم، والسائرون في فلكهم، عن الإرهاب، فالحديث هو عن المسلم، بغض النظر عن مذهبه وطائفته وفريقه؛ بل الإرهاب عندهم هو الإسلام نفسه، والبقية الباقية من أمته هي العدو الاستراتيجي، وهي الخطر الداهم!! ولأن مفهوم الإرهاب خاضع للتمييع عن قصد، وهو تهمة تلغي عن صاحبها، صفته البشرية، وكل حقوقه الإنسانية، قبل أن تلقي به في أسوأ زنازين العالم؛ فقد بات الهراوة الغليظة التي تهزها النظم تخويفا وقمعا، فلكل منتظم دولي، بل ولكل دولة على حدة، صغيرة أو كبيرة، قوائمها الخاصة بها للإرهاب، والتي تتسع وتضيق تبعا لمزاج الحاكم، ومصالح اللوبيات التي تجسد هيمنته، أما في بلداننا فتهمة الإرهاب حاضرة جاهزة لكل معارض سياسي، أو ناشط مدني، وكل صاحب فكر أو رأي حر، أو صاحب قضية عادلة يسعى لاسترجاع حقه المستلب فيها بما يتاح من الوسائل.