عجيبة هي ظاهرة الاعتداء على المسؤولين في مواطن عملهم و رحاب هيبتهم "المفترضة" من طرف مسؤولين بحجمهم ممن يحسبون على "الوجاهة" القبلية و "المنزلة" المترفعة على "الدونيين" في سياقات التراتبية الطبقية الشرائحية و كأن في الأمر انسياق طبيعي مع عقلية الصرامة الجاهلية المطلقة على عواهنها.. و عجيبة هي كذلك ظاهرة سلاطة ألسنة النساء في كل الحالات من دون جزاء للابتزاز و إغراق الآخر في أوحال الفساد
و الحيف و إن لم يكن هو من قبل بعيدا عنهما.. كما هو عجيب كل العجب و مخز كل الخزي تحدي اليافعين السافر لمسطرة الأخلاق و ارتكابهم ما يشاؤون من الخروقات لكل موازين الاستقامة باسم المال السهل الذي ينهال عليهم من نوافذ النهب و لم يبلغوا بعد الحلم.. كما هو عجيب أن يرى "قساة" يكفرون في المساجد و خارجها باسم الدعوة من يستضعفون، و ينفرون من "الدين القيم" و كأنهم أوصياء بالقوة على من يستضعفون من عباد الرحمن.. أو ليس في كل هذه الظواهر مؤشر بارز لبقاء "السيبة" على أشدها و أبلغ مظاهرها و إن تدثرت بثوب المدنية في رحاب الجمهورية؟
من يرمم الأحلام المعطوبة؟
إنها غابة من أماني مؤجلة لأهل دولة كادت الأقدار السعيدة لوهلة أن تسعفها بالقيام قبل أن تنقض عليها الدواهي المشؤومة و قد رضعت ثدي "الجفاف" الثلاثيني من منتصف الـ 60 إلى منتصف الـ 80 و "الحرب" الخمسية الحارقة من العام 75 إلى العام 79، و الانقلابات العسكرية المتتالية، و المكر السياسي القبلي الإقطاعي "السيباتي" الذي لا ينقطع سيل خرابه و جهد بلائه و لا يهدأ من الهدم طرق معاوله؛غابة من الأماني تذبل رويدا أوراقُها، و تترهل أغصانُها، و تنكمش جذورها تحت وطأة الاستكبار المعرفي في الدائرة الضيقة لترهات الأدب الأصفر و التدين الذي تحاصره متاريس "السيبة" ذات الأصول الجاهلية، و الترفع عن العمل المبارك الذي تتفاخر بثماره اليانعة كل شعوب العالم و تجله و تقدره، و قد ميز و رفع الأنبياءَ و الرسلَ؛ أدبٌ أصفر يَخشى النقدَ و يجامله في ضعفه، و تَدَيّن مظْهري يَعُض عليه سدنتُه من أهل الادعاء ألنبوغي الافتعالي بنواجذ التراتبية ذات البعد التمييزي التكفيري الإحباطي. فمن يرمم المتبقي من الأحلام المعطوبة و يحي موات الأخلاق و هي رميم؟
كبرياء الصخب و فروسية الصمت
حبذا لو تنازلنا عن كبرياء الصخب و تحلينا بفروسية الصمت فأسرجنا خيول العبور من ظلامية اعتبارانا المتجاوزة إلى فيض أضواء التحضر العالِم و المدنية الراقية.. و حبذا لو استللنا سيوف نزالنا من أغمادها الخجولة و أجهزنا على خفافيش الكهوفية التي تعير أعيننا عند كل صباح و لا تردها إلينا في المساء.. و حبذا لو استخرجنا و شحذنا نصال نخوتنا الصدئة من مدافنها تحت رمال القهر النفسي النائمة في عهدة النسيان لنرفع رايات عزة خبا وهجها و اندرست معالمها لنجدد بالعزم المبتكر و التحدي المنتزع من غياهب اليأس دورتها بعد مواتها.
يسدون النوافذ أمام نسائم التغيير
مثقفون غارقون إلى الودجين في النرجسية المتجاوزة و يسبحون ضد تيار الحداثة الهادئ إلى لجج "الماضوية" المظلمة حاملين بـ"الاعتزاز الجاهلي" ألويتها الرعناء، يتسابقون في بطر سافر على الشوارع لتخطي الإشارة البرتقالية إلى سبق مزمع للحمراء في هستيرية اللفظ و الفعل.. و في المصارف يقدمون رخصة "السياقة" بدل بطاقة الهوية ثم يوبخون صاحب الشباك بعدما يرفض الإذعان لمخالفتهم. و في مكاتب العمل يؤجلون ما شاؤوا من العمل بميزاجية حادة و يضربون بعرض الحائط كل قيم النظام و الانضباط و أداء الواجب وجوبا و إخلاصا و وطنية.. و أما في بيوتهم فيزورون فواتير الكهرباء و الماء، و إن ضبطوا أخرجوا أوراق "الجاه المكتمل" قبليا و سياسيا و تخندقا.. إنهم لا يؤلفون و لا يقرأون و لا يُخلصون في نشر العلم الذي بحوزتهم.. تراهم يمسكون بكل مسالك الحياة اليومية، لا تفوتهم صغيرة و لا كبيرة، و يدبرون بسلبية و ظلم و فوضوية جزئيات النهار.. يتوسطون و يطيحون و يعينون و يغامرون و يختلسون و يفسدون و يسدون النوافذ في وجه أي نسمة للتغيير.
هو الإعلام بعلامات "السيبة"
هي الانتقائية الصارخة بمواصفات "السيبة" تُمارس بأبشع الطرق داخل المؤسسات الإعلامية العمومية و في أعلى مستويات الجهات المسؤولية عنها تسييرا و إشرافا و مراقبة، لا تنكرها عين و لا تخفى على متابع انعكاساتها السلبية على المستهدفين من أهل العطاء النبيل و القلم السلسبيل؛ ممارسات ممنهجة كأنها "سيف داموكليس L’épée de Damoclès" مسلط على رقاب المستضعفين و غيرهم من الملتزمين بقدر من "التّرفُع" الأبي عن الأحذية و "قذى" قدح خيالة النرجسية الظالمة الرعناء.. ممارسات تكشف بما لا يدع مجالا للشك أن قراءة أوجه "الإعلام" في البلد قد اختلطت منذ الوهلة الأولى لميلاد الدولة مع "مفاهيم" عصية من إرث الماضي "السيباتي" حيث يرى رواده و واردوه و قد أخذوا بعد حين على "المدح" و "الذم" و "التزلف" و "الوشاية" باستبدال لا يكاد يخفى للحرف الصحفي بالحرف النفعي، و استسهال الأخذ بكل الطرق المنكرة المتاحة لتهميش الصالح و إعلاء الحيف و الإقصاء.. و إن المجاملة التي تلامس النفاق هي المدخل في كل ذلك و عند كل مناسبة مهما كان حجمها، سواء تعلق أمرها بفرصة تكوين، أو تمثيل للبلد إقليميا و دوليا، أو مهمة وطنية، أو تغطية لحدث، أو ترقية أو تحفيز أو نيل جائزة.
بل هكذا يعاد للتاريخ اعتباره
أطلقت فرنسا السفيتة الشراعية "لرميون L’Hermione " دى لا فاييت ذالك الجندي الثوري " de La Fayette" المعادة التصميم بالخشب و الأشرعة لتبحر كما فعلت ذات يوم متبعة نفس المسار من البحر الأبيض المتوسط لتعيد للذاكرة و المجد الفرنسيين ألقهما و للعالم جزء من ملحمة تاريخ الفتوحات و البطولات الماضية و ليس أقلها المشاركة في تحرير الولايات المتحدة الأمريكية من الاستعمار البريطاني. و على متن الباخرة يحتك أكثر من ستين شابا و فتاة من عديد الجنسيات ببعضهم البعض و يتقاسمون مغامرة مخر عباب الزمن ليعيشوا أجواء الماضي على متن سفينة من حقبة ولت بأزيائها و آلاتها الشبه بدائية و روح الحماس و المغامرة و الاستكشاف و نشر اللغة و الثقافة الفرنسيتين على ربوع القارات التي تصلها و لتحبيب الشعوب فيها و تقديرها إياها. هي كتابة عملية مبتكرة تضع حدا بين الخرافة و الواقعية و تثبت بالإعادة الأمينة مستوى الحضارة الفرنسية عبر الحقب في قوالب العلمية و كيف أنها كانت تشترك في تطوير العلوم و بث المعارف و بناء النظم و تسيير الدول. فهل نأخذ العبرة من الدرس العملي و نعيد كرة غير خاسرة لتنقية تاريخنا من الخرافة و الزيف و الادعائية و الشطط و نبتكر أساليب مقنعة لتحصيل ما يسكت عليه و يؤسس لانطلاقة كتابة ناصعة تجلب الاحترام و التقدير؟