حمى الذهب 2016 / أحمد أبات

تحكي كتب التاريخ أنه في أواخر القرن 14م شد " مانسا موسى " ملك إمبراطورية مالي الرحال متوجها إلى الديار المقدسة في موكب كبير ضم الافا من الإبل والخيل محملة بكميات كبيرة من الذهب... وطوال تلك الرحلة الشهيرة كان " مانسا موسى" يوزع هداياه الذهبية بلاحساب ..كانت إمبراطورية مالي التي يتربع " مانسا موسى " على عرشها  تتوفر على ثروة هائلة من الذهب تأتيها من المناطق المختلفة الخاضعة لسيطرتها أنذاك 

وكانت من ضمنها أجزاء من موريتانيا , وحتى الآن لاتزال أغلب المصادر التاريخية تعتبر " مانسا موسى " أغنى رجل في التاريخ...بعد إنهيار تلك الإمبراطورية تبددت ثروتها الكبيرة ونشأت على أنقاضها ممالك وإمارات ..لم تشتهر بإمتلاك الكثير من الذهب.
و مع مجيء الإستعمار جلب معه الكثير من الفرق الإستكشافية الجيولوجية التي أجرت مسوحات جيولوجية شملت أغلب مناطق البلاد وأدت إلي إكتشاف ركازات معدنية من أهمها " الحديد " في تيرس و " النحاس " في انشيري..ومؤشرات معدنية في مناطق مختلفة... وقد لفتت طريقة عمل أولئك الجيولوجيين أهل البوادي تلك الفترة فأطلقوا عليهم لقب " الشيمامه " .....
بعد الإستقلال و نتيجة لسيطرة الفرنسيين على قطاع إستخراج المعادن وضعف إمكانيات الدولة إستمر الإعتماد شبه الكلي على الفرق الجيولوجية الفرنسية التي كان معظمها يتبع ل " مكتب البحث الجيولوجي والمنجمي الفرنسي B.R.G.M وكان من نتائج عمل تلك الفرق إنجاز خريطة جيولوجية لموريتانيا وتحديد الوحدات الرئيسية المكونة لها( كسلسلة الموريتانيد وحوض تاودني...) ومميزاتها المورفولوجية والمعدنية...
بداية السبعينات عندما بدأ إستخراج النحاس في " انشيري "  تم رصد مؤشرات قوية على وجود الذهب في تلك المنطقة لم يتم الشروع في إستغلالها إلا في التسعينات من طرف شركة Morak  في " كلب أم أكرين   بضواحي  أكجوجت "  حيث قامت هذه الشركة بإستخراج كميات الذهب الموجودة في مخلفات إستخراج النحاس المتبقية عن الشركة العربية للتعدين " سامين " التي كانت تقوم بإستخراج النحاس في السبعينات..ثم بعد إنتهاء عقد هذه الشركة ظهرت شركة أخري تدعى " M.C.M " مازالت حتى الآن تزاول أعمالها في إستخراج الذهب والنحاس ...
رغم أن الشركات المعدنية التي أبرمت عقود إستغلال مع الدولة في ميدان إستخراج الذهب عددها قليل... وتكاد تنحصر في ثلاثة شركات رئيسية هي :
* شركة تازيازت المحدودة في منطقة "تازيازت "
* شركة M.C.M في " أكجوجت "
* شركة AL- GOLD  في " تجيريت "
يوجد الكثير من الشركات الحاصلة على تراخيص للتنقيب عن بعض المعادن في أماكن مختلفة و هناك مخاوف كبيرة من أن تكون أستغلت رخص التنقيب التي لاتجيز لها الإستغلال في عمليات إستخراج خصوصا للمعادن ذات القيمة العالية كالماس والذهب أو الأحجار الثمينة والنادرة كقطع " النيازك " (Meteorite )ذات الإستخدامات العلمية
بدايات_التنقيب_السطحي
....في أواخر عام 2012 حاول بعض الشباب الذين سبق لهم التعرف على التنقيب السطحي عن الذهب في " السودان " وبعض الدول الأخرى نقل تجربتهم إلى موريتانيا حيث جلبوا معهم جهازين أوثلاثة من أجهزة التنقيب السطحي عن الذهب من ماركة Minelab وقضوا أياما في نواحي من تيجيريت وتازيات أمضوها في التنقيب مستخدمين تلك الأجهزة....بعد أيام كانت  صعبة في مجملها عاد أولئك الشباب بخفي حنين... تلك الرحلة ونتائجها المخيبة للأمال وأدت ذلك المشروع في مهده..لكنه ظل حيا في أذهان بعضهم.
...عام 2015م أستطاع أحد هؤلاء الشباب " م.س.ع "  إقناع  إثنتين من كبريات شركات أجهزة التنقيب السطحي عن الذهب في " دبي " بالإمارات العربية المتحدة بجدوائية الإستثمار في موريتانياوهما: " شركة البياتي للتجارة العامة " و  " شركة ديبار "   وهما الشركتان المهيمنتان على سوق أجهزة التنقيب السطحي عن الذهب في الشرق الأوسط وأفريقيا من خلال إحتكارهما لتمثيل كبريات الشركات المصنعة لهذه الأجهزة ك..MINELAB و GARRETT  و FISHER...
..يناير سنة 2016م وصلت  عدةبعثات من تلك الشركات إحداها ضمت السيد " خالد البياتي " المدير التنفيذي ل " شركة البياتي " وخبير من شركة " MINELAB " يدعى " علي ".. وقد قامت برحلة تنقيب " رمزية " إلى منطقة في لبراكنه كانت نتائجها مشجعة..حيث تم الحصول على قطع ذهبية بعدها بأيام تم تنظيم حفل في فندق " موري سانتر "  يوم24/01/2016 عند الساعة الثامنة مساءً  تم خلاله الإتفاق على إفتتاح فرع لشركة " البياتي " بإنواكشوط وتم توثيق ذلك الإتفاق لدى موثق رسمي وتم تسجيل تلك الشركة بالطرق المعهودة لدى السجل التجاري..وكانت بداية التنقيب السطحي عن الذهب في موريتانيا.
حتى تلك الفترة لم يكن قد صدر قانون ينظم التنقيب السطحي عن المعادن ... وطوال تلك الفترة كانت السلطات العمومية تغض الطرف عن نشاط الشركات الموزعة لأجهزة التنقيب على أساس أنه نشاط تجاري عادي.
تسارعت الأحداث بعدذلك ففي  شهر فبراير 2016 تم إفتتاح فرعين أحدهما لشركة " البياتي " والآخر لشركة " ديبار " على الشارع المتجه إلى " تفرغ زينه " وهما ما سيشكلان نواة ماسمي بعد ذلك " سوق الذهب " ... في هاذان الفرعان رأى الجمهور الموريتاني العادي لأول مرة أجهزة تنقيب حديثة و خفيفة للكشف عن الذهب ..ظل الإقبال عليها ضعيفا و موضع شك وتكذيب من طرف الكثير من الزوار...كانت البطالة على أشدها وكان الأفق شبه مسدود للكثير من الشباب وكانت أحلام " الثراء السريع " تدغدغ  الكثيرين ...
كانت صحاري " انشيري " و" تيرس " ...مساحات شاسعة قليلة السكان والعمران    غير أن الله حباها بطبيعة خلابة تغنى بها الكثير من الشعراء منذ القدم كالشاعر الكبير #محمد_الطلبه حيث يقول واصفا بعض مواضعها :
*صاحِ قِف واستَلِح على صحنِ جالِ~~~
             سبخَةِ النيشِ هل ترى من جمال       
   *قِف تأمَّل فأنتَ أبصَرُ منّي ~~~
              هل ترى من حدوجِ سُعدىالتوالي
    *هل ترى من جمائِلٍ باكِرات~~~           
                من لوى الموجِ عامِداتِ الزَفال
    *سالِكاتٍ من نقبِ زَليٍ علَيها~~~
                   كلُّ جيدانَةٍ خلوبِ الدلالِ
     *كلُّ رخوِ الملاطِ يهوي بعَينا ءِ~~~
                    رداحٍ من الهجانِ الخدالِ
     *فتَسَرَّع لعَلَّنا نتَلافى الظُعن~~~                
                    قبلَ اعتسافِ وعثِ الرمالِ
                      •
                      •
..لم تمض أيام حتى بدأت تصل أخبار من تلك الصحاري.. أن الذهب موجود فعلا.. بدأت تلك الأخبار تأخذ شكل شائعات...بدات تتدحرج ككرة الثلج..وتناقل الناس قصص كثيرة عن حصول فلان على كيلوجرام...وآخر على كيلوجرامين...بحلول نهاية شهر مارس 2016   بدأت إرهاصات " حمى الذهب " التي سبق وأن شهدتها بلدان إفريقية عديدة...أمتدت الطوابير أمام محلات الأجهزة..وتشكلت سوق جديدة في لمح البصر..نفذت كل أجهزة التنقيب من السوق وأرتفعت أسعاربعضها من 850.000أوقية إلى 2.500.000أوقية وبدأ الموريتانيون في كل مكان من العالم (امريكا-أوروبا- الخليج-الصين)في شراء أجهزة التنقيب وشحنها إلى أنواكشوط ، توافد الناس من البوادي والقرى ..بل ترك البعض أعمالهم ودراستهم وعادوا من المهجر يحدوهم الأمل في الحصول على الذهب وكعادتهم لم يضيع " التيفايه " الفرصة أغرقوا السوق بالأجهزة الصينية المزورة ..وتكالب الجميع على " المنقبين " من بائعي الأجهزة المزورة ..إلى مؤجري السيارات رباعية الدفع..إلى السلطات العمومية التي كان لها نصيب الأسد من هذه " الكعكة " حيث فرضت تعريفة جمركية باهظة بلغت 303.000أوقية على كل جهاز تنقيب أيا كان نوعه و100.000 أوقية على رخصة التنقيب للجهاز الواحد صالحة لمدة أربعة أشهر في فيافي منطقة " أحميم " حيث لا ماء ولا مرعي ...كان بريق الذهب الموعود قد خلب الألباب ،باع البعض منازلهم ...وباع البعض الآخر أغلى مايملك من الإبل والبقر..وكاد البعض أن يفقد صوابه ..في تلك الأيام من شهر أبريل 2016  تقاطرت على مدينة أنواكشوط بعثات كثيرة من كبريات الشركات العالمية المصنعة لأجهزة التنقيب السطحي عن الذهب
كشركة MINELAB..و.. GOLD FINDER   و MAKRO.. و .. GMT...وأشتدت المنافسة بينها غير أن " ميدان التنقيب " هناك في صحاري تازيازت وتجريت أعطى " قصب السبق" لأجهزة GPX-4500 و GPX-5000 و GPZ 7000... المنتجة من طرف شركة MINELAB الأسترالية كما أحرزت بعض الأجهزة الأخري الصغيرة بعض النجاح ك.. GOLD-FINDER..وGOLD-BUG2... في حين كانت فعالية الأجهزة الأخرى ضعيفة جدا وقد أطلق البعض عليها أسماء ساخرة ك.." الويطواط " و " أخويسر همو "...في خضم " حمى الذهب " هذه توافد الكثير من "  السودانيون "  وبعض الجنسيات الأخرى على أنواكشوط بهدف المشاركة في عمليات التنقيب عن الذهب غير أن السلطات العمومية قطعت عليهم الطريق بتحريمها التنقيب على الأجانب و هو " التحريم " الذي لم يتم الإلتزام به دائما حيث قلما تخلوا مجموعة منقبين من بعض الأجانب خصوصا " السودانيين".
بحلول شهر " مايو 2016 " بدأت " حمى الذهب " في التراجع وأدرك جل الحالمين بالثراء السريع في سهول وهضاب " تازيازت " و " تجيريت " ...أنهم كمن يطارد خيط دخان ،وبدأ الكثيرون في العودة إلى أهلهم وأعمالهم السابقة، قلة تلك التي بقيت في ميادين التنقيب بداية ذلك الصيف لكنها تميزت عن الموجات الأولى من المنقبين بحب المغامرة وطول النفس والصبر  والخبرة... ومكنها ذلك من إكتشاف ميادين جديدة للتنقيب في مناطق " ربما " لم تطأها قدم من قبل ك " أوكار " و " تنومر " و " وديان الخروب " ...تراكمت الخبرات وتغيرت الوسائل والآليات وبدأ المنقبون في حفر آبار وآخاديد وحفر... لإستخراج الحجارة المحتوية على نسبة من الذهب ومن ثم تكسيرها وطحنها بواسطة كسارات وطاحنات   لكي يسهل عزل جزيئات الذهب الموجودة بها عن طريق مواد كيميائية  غالبا ما تكون مادة " الزئبق " شديدة الخطورة.
الآن وبعد حوالي سنتين من " حمى الذهب " التى كان ضحاياها كثيرون يبدوا أن هناك قطاعا إقتصاديا جديدا لم نعهده من قبل  قدتشكل هو قطاع التنقيب السطحي عن المعادن.

6. مارس 2018 - 9:58

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا