قراءة إستراتيجية في جغرافية الثورات العربية / سيدأعمر بن شيخنا

altتحدث المفكر الاستراتيجي الدكتور جمال حمدان رحمه الله عن توزع مراكز القوى على مستوى قلب الأمة (الشمال الإفريقي والشرق الأوسط) وقام بتقسيمها إلى مراكز قوى فرعية ومراكز قوى مركزية ،فعلى مستوى المغرب العربي يوجد مثلث قوة يتكون من " تونس- الجزائر- المغرب " .

،وفي المشرق العربي يوجد مثلث قوة يتشكل من " بغداد ، دمشق ، الرياض"، وإلى جانب هذه المثلثات الفرعية السابقة يوجد مثلث قوة مركزي على مستوى المنطقة يتكون من " القاهرة ، أنقرة ، طهران". 

لقد كان الغرب بخبرته التاريخية وفاعلية مؤسساته البحثية والاستخباراتية يدرك المغزى الاستراتيجي لخارطة مراكز القوى على مستوى المنطقة ، فكان منه ما كان من تركيز على هذه المثلثات - خلال مرحلة التواجد الاستعماري المباشر وفي المرحلة التالية لجلاء الجيوش الأجنبية - عبر بناء كيانات فكرية وسياسية وأمنية تضمن له تكريس الهيمنة و التبعية لمنظومة القيادة والسيطرة الغربية ، وكان ذلك يمر حتما عبر زرع الشقاق من خلال النزعات الوطنية الضيقة بغية تكسير أضلاع المثلثات الفرعية والنفخ في النزعات القومية لحرمان الأمة من التكامل بين أضلاع مثلث القوة العربي – التركي- الإيراني ، وما كان للمخطط الغربي أن يبلغ غايته لولا حالة الوهن والغثائية التي أصابت قطاعات واسعة من الأمة فوقفت متفرجة تجاه مخططات إقصاء الإسلام عن مناحي الحياة العامة ،لقد كان من ثمار هذا المجهود الغربي الضخم استثمار مثلثات القوة هذه ضدا على مصالح الأمة وأمنها القومي وأشواقها في الحرية والنهوض .

مثلثات القوة والربيع العربي :

إذا وضعنا في الاعتبار التوصيف السابق الذي قدمه جمال حمدان عن توزع مراكز القوة على مستوى الأمة فسيمكننا ذلك من رصد وتقدير حجم التغييرات الإستراتيجية العميقة التي شهدتها مثلثات القوة هذه خلال العقود الأخيرة ، وهي التغييرات التي بلغت درجة الذروة مع الثورات العربية الجارية .

على مستوى مثلث القوة في المغرب العربي سقطت إحدى أضلاع هذا المثلث وهي تونس في 14من يناير 2011م ،وبذلك فتحت أبواب التغيير على بقية أضلاع المثلث المغاربي بل على بقية أقطار المغرب العربي - وكانت ليبيا بشعبها المجاهد وموقعها الرابط بين المغرب والمشرق في المقدمة - ، وفي المغرب الأقصى ومع بدأ حركة الاحتجاج تكيفت الرباط مع رياح التغيير التي تبدوا قدرا مقدورا وكان من نتائج ذلك التكيف الذكي انتخابات 25نوفمبر2011م وما أسفرت عنه من نتائج مثلت ثورة وفق السياق المغربي ،أما الضلع الجزائري فلا يزال متماسكا ويزهوا للقائمين عليه وكأنهم محصنين إ زاء موجة التغيير التي تجتاح المنطقة ،إن تاريخ الحركة الوطنية المعاصرة في المغرب العربي يحدثنا أن الثورة التحريرية انطلقت من تونس في أول الأمر ثم انتقلت إلى المغرب ثانيا ثم وصلت إلى الجزائر ثالثا ، وإزاء تصاعد تفاعلات الثورة في مثلث أضلاع مركز القوة في المغرب العربي ،قررت فرنسا الاستعمارية منح تونس والمغرب استقلالهما في العام 1956م ،للتفرغ لكتم أنفاس ثورة نوفمبر1954م في الجزائر- حيث كانت فرنسا ولا تزال تنظر إلي الجزائر وفق رؤية استراتيجية خاصة مرتبطة بمستقبل منظومة الهيمنة في المغرب العربي – لكن في النهاية التحقت الجزائر بالمغرب العربي المستقل وخرجت فرنسا من الجزائر عام 1962م ، ولكن بعد ثماني سنوات من العسف والتقتيل راح ضحيتها مليون ونصف شهيد، ويضيف سجل التاريخ أيضا أنه في عز الثورة الجزائرية وتحديدا قبل سنتين من انتصارها الكاسح ، وصلت بركات الثورة الجزائرية إلى الغرب الإفريقي حيث منحت فرنسا موريتانيا استقلالها عام 1960م وهو الاستقلال الذي مثل مفاجئة للطرف المتحالف مع فرنسا .

أما في مثلث القوة في المشرق العربي (دمشق – بغداد – الرياض ) ، فقد ضربت رياح التغيير إحدي أضلاعه الأساسية وهي دمشق التي ظن النظام الطائفي البوليسي المسيطر عليها أن بعض مواقفه الإيجابية على هزالها يمكن أن تضمن لها الإفلات من دفع فاتورة الإصلاح ، ومن المؤكد – رغم بشاعة الجراح النازفة – أن دمشق الأصيلة سوف تنتصر على عصابات الشبيحة وتعود إلى سابق عهدها أرض رباط و فاعل رئيسي في المنطقة من موقع المسؤولية تجاه الأمة لا بمنطق حسابات الطائفة وتوجساتها.

أما في الضلع الثاني " بغداد " فهناك سلسلة من التغييرات لها سياقها الخاص الذي بدأ مع الاحتلال الأمريكي الغاشم عام 2003م ،وماتلاه من صراع طائفي بغيض أسست له سياسات البعث الخاطئة وعمقته حسابات وطموحات إيران الطائشة ، ومن المنتظر أن تتمثل التأثيرات المتوقعة للربيع العربي على" بغداد" في تهذيب النزعة الطائفية لدى شيعة العراق وتسهيل عملية التوافق بحيث يتم ترميم الحياة السياسية العراقية من جديد وخلق حالة من التوازن في الإقليم ستسمح للعراق بالوقوف على رجليه من جديد واستعادة دوره المحوري وهو أمر لم يكن يتصوره أكثر المراقبين تفاؤلا لولا الربيع العربي الراهن .

أما في الضلع المشرقي الثالث "الرياض" ، فهي رغم ماتبديه من عدم اكتراث بالتغييرات العميقة التي تجري حولها بدليل عدم تقديمها أي مبادرة جادة تشي بنوع من التكيف مع الوضع الجديد ،إن حالة الجمود والتكلس التي تطبع الموقف السياسي في المملكة سوف لن تستمر كثيرا إذا ما استكملت الثورة المصرية عملية بنائها الداخلي ورست سفينة الثورتين اليمنية والسورية في بر الأمان وهو أمر قريب بحول الله .إن السعودية ستجد نفسها -إن هي أرادت الإستفادة من المزايا الاستراتيجية الكبرى التي يتيحها الربيع العربي – مرغمة على الانفتاح على القوى الحية المخلصة في المملكة وإعادة التوازن إلى علاقتها مع الغرب وإلا فستفتح على وحدة المملكة (غالبية أراضي الجزيرة العربية ) وحرمة مقدساتها أبواب من الفتن هي في غنى عنها .
إن الثورة في اليمن ستحقق التكامل الاستراتيجي المصري السودان اليمني في إحكام السيطرة على البحر الأحمر و ستمثل رافعة مهمة للتغيير في عموم الجزيرة العربية نظرا للوزن الديمغرافي والتاريخي لليمن وموقعه الاستراتيجي المرتبط بإمدادات نفط الخليج وأمن السواحل الجنوبية الذي يصفه الدكتور حامد عبدالله الربيع بأنه وثيق الصلة بأمن سواحل الشام ،وهو ما تنبهته له القيادة الإسلامية في العهد النبوي والراشدي مبكرا أيام الفتوحات ، وتنبه لها في العصر الحاضر الشيخ حسن البنا الذي لم تشغله عملية البناء في مصر عن بعث كتائب الإخوان إلى فلسطين عام 1948م في نفس الوقت الذي كان يشرف فيه شخصيا على ثورة الأحرار المغدورة في اليمن (فبراير1948) إنها عبقرية البناء وإحسان البناء التي كان يتمتع بها حسن البنا وفق تعبير سيد قطب ،وهي ذات العبقرية التي قررت الدوائر الغربية وضع حد لحياة صاحبها بعد عام واحد من هذه الأحداث الاستراتيجية الكبرى ، حيث اغتيل حسن البنا – الذي كان معظم أفراد جماعته في المعتقل – يوم 12فبراير1949م . 

اكتمال أضلاع مثلث القوة المركزي :

أما على مستوى مراكز القوى المركزية فهي لله الحمد في طريقها للتلاحم والتكامل ،ففي إيران أطاحت الثورة الإسلامية عام 1979م بشاه إيران الذي كان يلعب دور شرطي الخليج لصالح منظمة الهيمنة الغربية ، وانطلقت إيران الثورة في بناء نهضة علمية وصناعية واعدة ، وفي تركيا الكمالية التي أرادها الغرب ضدا على مصالح العرب والمسلمين أعادتها إلى أحضان الأمة جهود "النورسية" و"مللي جورش" ومبدأية أربكان وإبداعات أردغان بعد عقود من التيه الحضاري، لقد أضحت تركيا اليوم بلدا رائدا في المنطقة والعالم وهي تشهد نمو صناعي واقتصادي واعد ،لقد ظلت مصر منذ اتفاقية كامب ديفيد عام 1979م ، تحكمها عصابة تعبث بمستقبل البلد وتسوم المصريين الأحرار سوء العذاب و تتاجر بقضايا الأمة وتعمل ضدا على أمن الأمة القومي أو بتعبير أحد الساسة الإسرائيليين ضمانة استراتيجية لأمن إسرائيل ، لقد أعادت الثورة لمصر روحها وسوف تسفر المراحل القادمة للثورة عن قيام نظام سياسي وطني مستقل متصالح مع ذاتية الأمة الحضارية وواعي بواجباته تجاه قضاياها،إن ما ترمز إليه مصر من عمق استراتيجي قائم على الموقع والتاريخ والثقل البشري والحضاري سوف يكون له تأثيره المهم في التكامل بين أضلاع مثلث القوة المصري التركي الإيراني الذي سيعود للتشكل من جديد كرافعة لقضايا الأمة وكذراع واقي لأمنها القومي وإني على قناعة أنه حالما تستكمل الثورة المصرية مسارها سوف تجري حوارات معمقة بين أضلاع مثلث القوة هذه وسوف تتوصل إلى تفاهمات استراتيجية تجعل المصالح العليا للأمة فوق كل اعتبار.

العبرة المتجددة :

وإذا كانت دروس التاريخ لاتكفي لإقناع البعض في بيان الدور التاريخي المركزي للإسلام في بناء نهضة الأمة وتجميع طاقاتها ودرء الأخطار المحيطة بها وقدرته الفائقة علي صناعة الأجيال القادرة على انتشال الأمة من لحظات الضعف والهزيمة إلى آفاق الحرية والعزة ،فإن في تجربة المسلمين المعاصرة بدءا من حركات المقاومة ضد الاستعمار – المغدورة - مرورا بنضالات الحركة الإسلامية المعاصرة وابتلاءاتها المتنوعة وانتهاءا بالروح الإسلامية التي تطبع المجتمعات العربية الثائرة في زمن الربيع العربي الراهن لعبرة لمن القى السمع وهو شهيد.

10. ديسمبر 2011 - 9:07

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا