في نصوص الشريعة الإسلامية يحدد لنا الإسلام في أصوله المعالم الرئيسة للنظام السياسي، ودون الخوض في تفصيلاته وشكلياته، حيث ترك كل ذلك لاجتهاد العلماء والخبراء والساسة من أهل الشأن، وبما يتناسب مع حاجات الناس وتطور الزمان وطبيعة المكان، ومراعاة اختلاف الأشخاص والأحوال السياسية وتركيبة المجتمعات، ونمط ثقافتها وعيشها، وغير ذلك من الاعتبارات المعتبرة شرعا، واللازمة لوظيفة عمارة الكون .
لاشك أن انحراف المنظومة وفساد الحكم هو الذي يفتح الباب على مصراعيه على الكثير من المفاسد والشرور، وذلك لأن انحراف النظام عن الأهداف الكبرى والغايات الرئيسية، وتقصيره في تحقيق الأمور المناطة به، وهي: تحقيق العدل والأمن والأمان للعباد والبلاد، وذلك بإطعام الناس من الجوع، وريهم من العطش، وتعليمهم من الجهل، وعلاجهم من المرض، وتقوية أمر الدين، الأمر الذي يجعل من الإصلاح السياسي لمنهج الحكم ومؤسسات النظام هو وحده الكفيل بالوفاء بحاجيات الناس ومطالبهم في الحرية والعدالة والأمن، وهي الاحتياجات الرئيسية والأساسية لكل إنسان في كل عصر وبيئة، وحتمية توفر ذلك وإيجاده ولازمه أنه هو الذي يؤدى ضرورة إلى حصول نمو الثروة، وتحقيق النهضة الشاملة والرخاء لكل أفراد الأمة.
والإصلاح يا سادتي في الحياة السياسية والإدارية هو: التعديل في نظام الحكم تدبيرا وتخطيطا، سواء كان ذلك التعديل جزئيا أم كليا، وذلك يقتضي على وجه الإلزام محاربة مظاهر الفساد، بكل أشكاله وألوانه، وبالوسائل المختلفة، والإسلام يفرض على أتباعه العمل الجاد، والقيام بواجب تقويم الحكم ودفعه لبسط الحرية والعدل بين الناس، مقومات التنمية، وغايات وجود الدولة.
والإصلاح السياسي كمطلب شرعي، ومقوم حياتي، يعتبر من باب مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا إصلاح بدون قطع دابر الظلم وشل حركة الفساد، وإنصاف المظلوم، والانتصار للضعيف، وسد الطريق والمنافذ أمام كل المفسدين والفاشلين والعاجزين وتولية القادرين الصالحين، لأن الله تعلى لا يصلح عمل المفسدين، ولا يضيع أجر المصلحين المحسنين، عوامل النجاح ومقومات عمارة الكون.
وبن القيم- رحمه الله- وهو من فقهاء السياسية الشرعية، وخبراء فقه العمران والسلطان، يبين لنا طرفا من أسس ذلك وقواعده بقوله"لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها. فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل".
وفي فلسفة السياسة والنظام الحكم في الإسلام، فإن المشاركة السياسية في الفعل والتدبير لشأن العام من دعاة الإصلاح والتغير، تعتبر من أهم وجل صور الإصلاح والتغيير السلمي قال تعالى:{أدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون}، وقال:{قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}،وقال:{وإني عليه لقوي أمين}،وقال:{فنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان}. والمشاركة في الفعل والتدبير هي التي تتضمن الكثير من صنوف العمل الإصلاحي، والذي هو أظهر مظهر من مظاهر المشاركة الفعالة والايجابية، وهي المقدمة الصحيحة المقدمة في المنهج والضوابط على كل أساليب وطرق وسائل التغيير السلمي وغير السلمي أو الثوري، نظرا لما تحققه من إصلاح وتأثير، وتجنيب الأمة لكل أشكال الصراع والفتن وإراقة الدماء، والتي هي في فلسفة الإسلام كالكي الذي يعتبر هو آخر العلاج، والكي في مرحلة من المراحل قد يكون من أوجه النضال والمقاومة المشروعة المتضمنة في معاني قوله صلى الله عليه وسلم:"ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه إلى الحق إطرا"،وقوله:"وسيد الشهداء حمزة ورجل عمد إلى سلطان جائر فأمره فنهاه فقتله".
فتقويم السياسة وإصلاح نظام الحكم أهداف عليا ومصالح كبرى، لا بد لإيجادها من ثمن يوازيها ويكون على قدر تأثيرها، باعتبار إصلاحها هو الضمانة لإصلاح الحياة كلها، يقول فقيه فقه السلطان الإمام الماوردي"اعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة ستة أشياء في قواعدها وإن تفرعت وهي: دينٌ متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمنٌ عام، وخصبٌ دائم، وأمل فسيح".
والأمن والاستقرار مظهران خارجيان لجملة عوامل ذكر منها الشيخ الأزهر السابق الشيخ محمود شلتوت في تفسيره للقرآن الكريم العوامل الباعثة على الاستقرار والأمن كمطالب من مطالب نماء العمران وعوامل النهوض، متخذا من كتاب الله عز وجل أساسا لمنهجه الفكري، يقول:" يدلُّنا واقع الحياة وتاريخ الاجتماع أن احتفاظ الأمة بكيانها يرتبط بأمرين لابد منهما الاستقرار الداخلي والاستقرار الخارجي. والاستقرار الداخلي أساسه صلاح الأسرة وصلاح المال وقوة النظم التي تساس بها في جميع شؤونها، والاستقرار الخارجي أساسه احتفاظ الأمة بشخصيتها واستعدادها لمقاومة الشر الذي يطرأ عليها والعدو الذي يطمع فيها، ولابد مع هذا وذاك من تقوية العنصر الروحي في قلوب أبنائها حتى يتحقق فيما بينهم التضامن والتعاون على السير في الأمة في ظل تشريعها القوي العادل في سبيل الخير والفلاح والعز والمنعة".
ولا شك أن المتصدر للإصلاح والمنشد للتغير مطالب قبل غيره وعلى جهة الإلزام المنهجي في سعيه في السياسة والعمل والإصلاح أن يراعي في كل تفكيره وعمله ومطلقاته وحركته وتدبيره الخطوات التالية:
1- مبدأ رعاية الضرورات، وكون الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة، وفقهاء السياسة الشرعية يقولون: هناك ضرورات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وغيرها لا بد من المحافظة عليها، وعدم انتهاكها لتحقيق ما هو أقل أهمية، وذلك باختيار الوسائل التي تحافظ عليها وتحميها .
2- في النضال والسعي والعمل والبناء ارتكاب أخف الضررين، أو التقاضي عن بعض المنكرات، إذا تيقن أن تغيرها تترتب عليه منكرات أعظم وأخطر، وذلك اعملا ودفعا لأعظم المفسدتين، وتطبيقا لفقه الموازنات، ومراعاة للمآلات، حيث تكون الوسائل مرهونة بما تفضي إليه من نتائج .
3- مراعاة سنة التدرج في منهج الإصلاح والتغير حتى في المنكرات السياسية والمفاسد الإدارية والمالية وحتى الثقافية، والتي استحكمت في الحياة ولسنيين عديدة، وهي لا يمكن من الناحية العلمية والعملية إزالتها بجرة قلم، ولا بقرار يصدر عن نظام الحكم، بل لابد سياسيا وتربويا من معالجة أشدها تأثيرا وأخطرها، وتحيد بعضها الأقل خطرا، وتأجيل الآخر الأقل أهمية، ولكي ننجح في فكرة التدرج في الإصلاح والتغير، لا بد لنا أولوية من تحديد الأهداف والوسائل، والمراحل اللازمة للوصول إلى الغايات والأهداف .
فالإصلاح السياسي والتخطيط للتغير والعمل الميداني، لا بد أن يقوم العمل لكل ذلك من أهل الخبرة والكفاءة وعلى التدرج والتخصص وتوزيع الأدوار .
4-انتقاء الأشخاص المتكونين والقادرين، واستخدام أصلح الوسائل في كل موضع، بما يتناسب مع الحال والوقت، والظروف، فالوسائل بعضها قد يكون مناسبا لحال وواقع دون آخر أوقت دون وقت، أو حال سياسي دون آخر .
5-الأخذ بعين الاعتبار أن النظم والوسائل لا تعرف الثبات على تصور واحدة ولا على آليات محددة، وخاصة إذا كانت في وضعها وبنائها قائمة في الأصل والوجود على تقدير المصلحة وتقدير الأمور المتعلقة بذلك تأثيرا وغاية، وتلك مسائل مرتبطة بما لا يعرف الثبات والسكون الزمان وأحوال الناس وحاجاتهم .
والمفروغ منه علميا وعمليا إن كل المناهج والسياسات القائمة عليها تشكيلاتنا السياسية ومؤسسات مجتمعنا تعاني، وإن بنسب متفاوتة، من العجز والفشل وعدم القدرة والتمكّن من صنع مؤسسات قادرة على حلّ مشاكلنا ولو بشكل جزئي، وليست عندنا مؤسسات رقابة قادرة على إلزام المؤسسات على تطبيق ما يفترض أننا اتفقنا عليه من العمل السياسي للتأكّد من المصداقية في هذا المجال، وبالتالي فإننا نعاني وبشكل حاد من غياب تحديد واضح لمعالم ومكونات وأهداف ذلك العمل، ولا من المنهجية والأسلوب الذي يمكّننا من الإحاطة به داخل السلطة وخارجها، أو على الأقل ليعرّف ممتهن السياسة على تفاصيل وحدود مهنته.
وذلك أمر واضح التحدي بشكل جدي في حياتنا وممارساتنا وخاصة إذا علمنا أن أغلب المواطنين الذين أصبحوا يتفاعلون مع الأحداث وبطرق أكثر تعقيداً من ما كنا عليه قبل عشر سنوات مثلا، الأمر الذي يجب أن يدفع القائمين على أمر السلطة والمتصدرين للسياسة وقيادة الشأن العام إلى احترام تلك التطلعات والمشاعر والمبادئ التي تقوم عليها السياسة عند الناس والتي في الغالب من دون سابق تصميم، وخاصة في ظل الحياة الديمقراطية المعولة والأنظمة التي تدعي تمثيلهم والتعبير عنهم، وهي في الحقيقة دعاوي تدعوا إلى الاستغراب والعجب والتساؤل:
ما النتائج السياسية المطلوبة للتعاطي مع المشاعر الإنسانية كالغضب والملل واليأس وضغوط العمل والبطالة والنزوح من القرى والضغط على المدن والمتطلّبات الاجتماعية وغيرها، وهي مشاكل في حد ذاتها وطبيعتها تتغلب على منطق العلم والعقل نظراً لتنوّعها، لذا فإن استنباط الحلول يستوجب الجهود المضنية التي بدورها تتطلّب القدرة والوقت اللازمين.
والمفروض في العمل السياسي أن يكون مهتمّا بكل هذه الأمور مع التخطيط الدائم لتلافي مشاكل الحياة اليومية المتفاقمة باضطراد، والعمل على نزع فتيل الخصومات والشحناء والبغضاء واندلاع الفتن والحروب.
ومن هنا يصبح العمل السياسي هو لولب الحياة الاجتماعية وركن السلم المجتمعي نظراً لأهميته القصوى في شتى ميادين الحياة، لأن السياسة ليست فرضية تحدّد بواسطة تحليل، بل هي مسألة متشعّبة وواسعة النطاق، حيث تبدو متناقضة في بعض تفاصيلها، وتُعطي عدّة معانٍ للقضايا نفسها، الأمر الذي يجعل دعاة الإصلاح ورواد حركات التغيير معنيين أكثر من غيرهم بدخول في معمعان الحيات العامة تنظيرا وتخطيطا والتدبير، ولا يصلح منهم ولا يقبل مطلقا الانزواء والتفرج، ومنطق فإن يخرجوا منها فإنا داخلون.