بعد يوم حافل بالعمل داخل أقسام البكالوريا و الشهادة الإعدادية ، و قبيل اختتام الدوام الأصلي اتصل بي أحد الأصدقاء ليقول إنه في ألاك و سيمر علي في المنزل ، كان على العاملة أم تعد وجبة سريعة و ممتازة في نفس الوقت ، فاقترحت عليها وجبة من الدجاج المحلي مع أرز البسمة ، أو القهقهة كما يسميها أحد الصغار .
نجحت المسكينة ، بالتعاون مع شخص آخر على الهاتف في المهمة ، فكانت وجبة رائعة أعقبناها بشاي منعنع بنعناع "لكريده" المقطعية و نكهته المعتقة التي تتسلق مع المناخير.
أصر الصديقان : سيد محمد ولد أحمد و ابن عمه أحمد ولد أحمد أن أصحبهما لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في لعصابة ، و هو أمر لا يأباه إلا من لم يألف دفء المنطقة و تدفق الجمال بين أحراشها و كثبانها.
انطلقت الرحلة من مقطع لحجار في حدود الرابعة ، و مررنا بالطريق الذي اعتد المرور معه بالألمانية، لكننا هذه المرة في يابانية فخمة من العابرات للصحراء.
وصلنا إلى "بلمطار" في كيفة بعد صلاة المغرب ، و لعل التسمية حرفتها عن أصلها "بل المطار" سرعة هذرمة سكان المنطقة للكلمات.
و كما كان متوقعا استقبلنا في منزل الصديق أحمد واد أحمد بحفاوة بالغة ، و قدمت لنا مائدة مثقلة بلحم صغار الضأن و الوجبة المحلية ذات الصيت (الكسكس) ، مشفعة برسل العلائل و الشاي الأنيق المعتق.
بتنا ليلة هادئة و في استرخاء تام، في مكان نظيف يعكس مستوى المدنية في عاصمة الشرق ، و لم يخترق صمت المدينة غير الأذانات و التلاوة و التراتيل التي تضج بها كيفة كل فجر ، و هي ميزة تتميز بها هذه المدينة ، حيث تكثر المساجد و المحاظر ، و يمتاز هذا الحي بالذات بأنه يحتضن منازل أسرة من آل البيت ، حافظت على الأصول و الفضائل ، مع مظاهر الرخاء و الرفاهية بنكهة الورع و العبادة.
و لا غرو إن طابت هذه الربوع و قد تربى فيها أمثال العالم الجليل سيد محمد ولد سيدي عثمان الذي يؤم الجامع الكبير بعا.
و بعد صبوح تزاحم فيه الحديث و الأصيل ، لملمنا أشياءنا للرحلة التي كنا ننتظر في اتجاه تجمع "لعوجة" أول نقطة من بلدية "ساني" التابعة لمقاطعة "كنكوصة".
المسافر إلى لعصابة يسافر في زمنين : ماض تتزاحم صوره ، و تترأى فيه أمجاد رقعة من الوطن ، تعايش فيها القلم و الزناد ، و المسبحة و البارود ، و سائس الأبقار و مروض الجياد و حادي النوق و مرتل الذكر و العابد الناسك و العالم الجليل و الفارس المغوار.
و حاضر انصهرت الفسيفساء الاجتماعية المتعددة المشارب فيه ، في سبيكة متماسكة ، موحدة الإحساس و الثقافة و الحضارة و التطلعات .
انطلقنا من كيفة جنوبا على طريق كنكوصة ، و الذي يمر بالمطار ، و هذا المطار لن يذكر صديقنا سيد محمد ولد أحمد ، الذي يسافر إلى تركيا بمطار اسطنبول ، و لا حتى بمطار "أم التونسي" في انواكسوط لقلة نشاطه و كسله.
و كما في كل مدن موريتانيا ، و ما تعانيه من سكانها ، تودعك القمامة عند المدخل ، و ينطلق الطريق الحديث الإنشاء ، و كأنه لاعب كرة قدم يجيد المراوغة ، يدور يمنة و يسرة مثل تصريحات أحد الوزراء ، و يصعد مثل الأسعار و ينزل مثل قيمة الأوقية.
على امتداد الطريق تتناثر المنازل الموسمية المهجورة، و التي تكون مأهولة زمن الخريف ، كما تترأى مظاهر محق الحشائش و تندر رؤية المواشي د .
المتوجه إلى "العوجه" لا بد أن يستحضر "واد أمور" و "أطويلات" و " تارحييت" نظرا الارتباط الاجتماعي بها ، لكن السكان انصهروا في المجتمع المحلي رغم المحافظة على الصلات.
يخترق وادي "لمسيلة" العملاق الولاية جنوبا ، منطلقا من شمال الحوض الغربي متوجه إلى كركور في كيديماغا ،مرورا با"العاكر" و واد "أم الخز" و "مكطع اسفيرة" و "الملكة" و "السلطانية" و "النيزنازة" و "كورمل" و "أجار" و "كوروجل" و "سوروملي" ، و هذه النقاط كلها بحيرات تحجز بعض المياه ، ثم بحيرة "كنكوصة" لتتدفق منها المياه إلى "كركور" ثم النهر السينغالي ، و قد استوقفني هذه المسميات و كأنها في جلها من البولارية .
و تصب في "لمسيلة" عدة روافد من الجهتين الغربية و الشرقية ، كما تنتشر القرى و واحات النخيل على العدوتين الدنيا و القصوى في منظر بديع يسحر الألباب.
قبيل القرية بكيلومترات تسلقنا الكثيب المرتفع الذي يشرف على الطريق ، و استعنا بجهاز GPS للدخول من المدخل الشمالي عند "أشلاي" حيث تنتصب منازل أسرة "أهل محمد فال ولد أحمد" التي بنتها الأسرة خارج القرية لتوسيع المكان على مواشيها و زوارها.
يعتبر رجل الأعمال سيد محمد ولد محمد فال ولد أحمد المسؤول الأول لقرية "لعوجة" و صلتها بالدولة ، و موفر أهم المشاريع فيها : شبكة المياه المجانية ، و المولدات و المسجد ، و المحظرة التي يدرس فيها ما يربو على المائة طالب ، و المشاريع الزراعية و غيرها، كما يعتبر الوجيه عبد الله ولد الحاج أعمر الرجل الحاضر باسم القرية في الولاية .
نزلنا في منزل رجل الأعمال و لن أحدث عن الحفاوة و الأريحية و حسن الاستقبال ، لكن المبهر هو مستوى الأخلاق و التمسك بالشرع ، و تواري النساء عن الأنظار، و جمال قراءة الإمام و بكائه في الصلاة ، و استعداد المصلين للاستماع للتذكرة ، و روح التآخي و التآلف بين السكان.
كانت الرحلة الأكثر إمتاعا و إبهارا هي زيارة "امسيلة العوجه" فقد مررنا في الطريق بحدائق و محطة المياه و النقطة الصحية التي تبدو اجمل من نقاط واد أمور و أطويلات و تارحييت على حد السواء ، كما زرنا المركز المتعدد الخدمات .
و على كثيب عملاق يقف الرائي ليشرف من عل على منظر رائع ، تندر رؤيته في جميع أنحاء الوطن ، ففي الوادي المنسكب بين الجرفين يرتسم الجمال على شكل غابة من النخيل العملاق و أشجار الغضا الملتحمة في السماء ، و تملأ أذناك أصوات الطيور و حركة اوراق الشجر ، و عند النزول ستفترش بساطا نباتيا أخضر يغطي الأرضية ، لكن الأغرب أن البساط الأخضر هو مجرد غطاء سميك للمياء المنتجعة أسفله ، بعد أن اعياها التسرب إلى أعماق الأرض ، فاتخذت هذا المكان مستقرا، و عند مرورك فوق البساط ترتج الأرض من تحتك و تخشى أن تبتلعك في الأعماق ، و الغريب أن أبقار القرية تعرف اللعبة و تتعامل معها بحرفية و تتحاشي النقاط الحرجة.
تعاني "لمسيلة" من شجرة الكهبل (لمحاده) الخطيرة التي تؤثر على نمو النخيل و ثمره ، كما أن طاقة الاستثمار في المنطقة غير مستوفاة.
لم تكن عملية النزول نحو قاع الوادي صعبة لأننا استخدمنا السقوط الحر ، لكن الصعود كان مؤلما لشدة الانحدار و حرارة التربة .
عدنا إلى المنزل ، و قد اختلطت في أذهاننا جماليات أرض وطننا ، و ما يعانيه من ضعف في التنمية و ترنح و ارتجالية و فوضى .
و عدت إلى عاصمة الشرق ، لكن رحلة "لعوجة" ستظل راسخة في ذهني لما وجدت فيها من متعة و إبهار