منذ احتراق البوعزيزي- رحمه الله- ساعة امتعاض من تجبر أمني مألوف في تونس يومها ..وما ولده ذلك "الاحتراق" من تداعيات ظلت ككرة ثلج تكبر وتنمو حتى أودت بأحد أقوى الأنظمة الفرعونية في القرن الحالي.
.منذ ذلك التاريخ و الحبر يسيل –كما الدماء- ابتهاجا بالثورة التونسية والعدوى التي أصابت الأمة المصرية ...ومهما قيل ويقال وسيقال فلن توفى هذه الثورات حقها ولن تنتهي الدروس والعبر المستقاة منها ..
فقد علمتنا هذه الثورات الشعبية ما لا يمكن أن تلقنه الجامعات المتخصصة والمعاهد المتطورة مهما بلغت من جودة الأداء وعمق المناهج ...و عموما سأقف بعجالة عند بعض الدروس التي استقيناها ..فقد علمتنا الثورة أن :
1- أشجع هذه الأمة وأشرفها هم شبابها .
2- وأغبى هذه الأمة وأجبنها هم حكامها .
3- وأقل الأمة نصرة للحق وتصدرا للمشهد الثوري هم علماؤها وأئمتها.
1- نعم أشجع الأمة هم شبابها : فلقد استطاعوا بجهد منظم ومتواضع أن يهزوا ويدكوا عروشا استعصت على كثير من الساسة والمفكرين والمثقفين وأولى الرأي.. واستطاعوا أن يحققوا في أيام بل وساعات ما لم تستطع القوى السياسة والأحزاب المعارضة والناشطون بمختلف طوائفهم تحقيقه في عقود.
ولعل مرجع ذلك إلى كون هؤلاء الشباب تجاوزوا الأطر السياسية والفكرية التي لا تخلو في كثير من الأحيان من المزج بين الهم الوطني والرؤية الخاصة ..وبالرغم من كون هذه الأطر تمكن ذويها من التنظيم والتنسيق والاستفادة من ذلك في الاستنفار والحشد إلا ذلك التأطير يشكل في حد ذاته عائقا باعتباره يحجم العمل نظرا لأن الأمة ليست على قلب رجل واحد "فكرا" أو توجها سياسيا" فضلا عن التخاصم والتقاطع والتنافر بين كثير من القوى الفكرية والسياسية داخل الوطن الواحد ..والتي تخشى كل منها تصدر غريماتها للمشهد السياسي.
بينما شكل انتفاء ذلك التأطير الفكري أو التنظيم السياسي عامل قوة لرواد الثورة وحفز الجميع على الالتحاق بها وزيادة الأعداد يوما بعد يوم –بل وساعة بعد ساعة- وهو ما أعجز النظام –الخصم عن تصنيف هؤلاء المتظاهرين تصنيفا إيديولوجيا أو سياسيا وبالتالي شل من قدرته على السيطرة أو المواجهة ..وساعد في إنهاك قواه بشكل كبير ..ذلك أن تحديد الخصم جزء من إستراتيجية المواجهة الناجحة..ولو أن قوة سياسية معينة قادت هذا النضال لما كان لها أن تحقق هذه "الشعبوية" وهذا التمدد السريع .وقد حاول النظام التونسي ربط الثورة بمجموعة من الملثمين الخارجين عن القانون .. وحاول النظام المصري في اللحظات الأخيرة ربط الثورة با لإخوان المسلمين وذلك بحثا عن نجدة من الغرب أو من ينظرون بعين الخصومة للإخوان..بيد أن تلك الحركة لم تؤت أكلها، وتبين أنها جزء من الفهم المتأخر غير السليم و مفردة من مفردات البحث المتأخر عن طوق نجاة.وأعلن الإخوان المسلمون أنهم ليسوا سوى جزء من الشعب الذي هب دفاعا عن كرامته ووطنه ولا مطمح ولا مطمع لهم في تصدر المشهد السياسي.
نعم هم أشجع الأمة ..وما زادهم عنف النظام وجبروته إلا إصرارا على المضي في تحقيق مطالبهم ولو برع القناصة في الاغتيال والتقتيل .وأصحاب الخيل والبغال والحمير والجمال .والسيارات في إلحاق صنوف الأذى بهم .. فهم بحق خيرة هذه الأمة وهم رجال الحرب .
2- نعم.. أغبى ما في هذه الأمة هم حكامها ..فهم لم ينتبهوا لحركة التاريخ وما أفرزته من تداعيات وما جد فيها من أقضيات وما حصل من تغير في الأفكار والتوجهات والخطاب وسلوك حياة الناس ...فظنوا أنهم يستطيعون أن يحكموا بنفس القبضة الحديدية والطريقة التي كانوا يحكمون بها منذ منتصف القرن الماضي ..فأخطأوا التقدير وحزوا في غير مفصل وجنوا على أنفسهم كما –ذات يوم- على نفسها جنت براقش.
إن توهم تجاوز وسائل الاتصال الحديثة، واعتبار أن منع وسائل الإعلام من تأدية مهامها في القرن الحالي منجاة من كشف العورات والزلات .والتفاف على الحق والشرعية- أمر في قمة الغباء .وسجن هذا المناضل أو ذك أو منعه من دخول البلد لا يعدو أن يكون محاولة غبية لحجب الشمس بغربال تقادم عهده أو محاولة زعزعة الجبال بيد شلاء.
وقد تجلى ذلك في عدم سيطرة النظام التونسي على تسريب صور جرائمه من خلال وسائل الاتصال الإلكترونية رغم المحاصرة والمضايقة ..وتوهم النظام المصري أنه سيفشل جمعة الغضب بقطع الانترنت فما أغنت عنه شروى نقير ...بل والأطرف من ذلك والأغبى أن يشل حركة المواطنين بتوقيف حركة القطارات بين المدن..ولو كان له أن يشل كل مرافق الحياة لينجو من لهيب الثورة لفعل .
لقد حاولت هذه الأنظمة محاصرة شعوبها وإيذاءها بتعطيل الخدمات التي كان من المفترض أن يسهروا على تطوريها وتنميتها ..مما عجل بالتخلص منهم ونفخ في روح الثورة ...
نعم هم أغبياء لأنهم توهموا أن الترسانة الأمنية التي ضخوا فيها ثروات شعوبهم لتحميهم وعروشهم من غضبها لن تخترقها تلك الثورات وما دروا أن هذه القوة الأمنية لا تتحمل غضب الأمة .وأن من الأبجديات العلمية أن شدة الضغط تولد الانفجار..ولهذا انهار الجهاز الأمني عند الصدمة الأولى ..واتضح أن ذلك "البعبع" الذي كان رمز الترويع ليس سوى فقاعات لا تتحمل الهزات ولا الثورات .
نعم هم أغبياء لأنهم لم يستفيدوا من درس إمامهم الأول "فرعون فساروا على نهجه الجبروتي وما انتبهوا أن من أدركه الغرق والثورة لا ينفعه الإيمان بالديمقراطية والحرية وكرامة المواطن وعدم التوريث ..فهم عن (آية) فرعون غافلون .
فمن رفض أن يعطي للمواطن حرية اختيار الرئيس لعقود متعدد وسامه سوء العذاب ونهب ثوراته لا يجديه التعهد بعدم الترشح أو رزمة من الرتوشات الإصلاحية تحت ضغط الثورة الشعبية..
.والغريب أن النظام المصري لم يستفد من خطوات نظيره التونسي والفارق الزمني لا يتجاوز أياما معدودة ...فسار على خطواته شبرا بشبر وذراعا بذراع ..قد تشابهت قلوبهم
والمفارقة أن الرئيس المصري الذي يعرض بلده للخطر والفوضى برفضه الاستجابة لمطلب التنحي هو من ناشد الرئيس العراقي السابق صدام حسين أن يتنازل عن الحكم حماية لبلده من خطر الدمار الذي قد يسببه الغزو الأمريكي 2003 م.
- نعم هم أجبن الناس لأنهم رضوا بالاختفاء أو التولي يوم الزحف ..ولجأوا إلى أسلوب قذر يعتمد الاستعانة للصوص والمجرمين أو "البلطجية" وما استطاعوا مسايرة الأحداث ومجاراتها فمنهم من قضى "ملكه" وشرد قبل أن يحدد الوجهة ومنهم من ينتظر..
3- نعم أقل الناس على الواجهة النضالية-للأسف- هم العلماء ...فطوال الأيام العصيبة التي مرت بها تونس خلال أيام الله تنادى الجميع فصدحت أصوات السياسيين و الحقوقيين والأساتذة والأطباء والمثقفين والفنانين ..ولكن - للأسف - غاب وسط الزحام صوت علماء الأمة فلم نسمع أحدا من أبناء القيروان يؤيد ويساند الثورة بل وحتى في العالم الإسلامي لم نسمع ركزا من الرموز العلمية والدعوية المشهورة إذا ما استثنينا العالم "الفتى الثمانيني" " الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله.
والآن ها هو شعب مصر-حتى كتابة هذه السطور- يصارع "الغول" ويناطح الفرعون ..ولم تبق فئة من الفئات إلا رفعت عقيرتها تأييدا ومباركة للثورة ..ومع ذلك لم يستطع الشيخ الطهطاوي أن يبارك الثورة حتى قدم استقالته كمتحدث باسم الأزهر .ذلك الحصن الذي يشكل رمزا من رموز الأمة الدينية وكأنه لا ينبغي للأزهر أن يكون ظهيرا للشعب المصري في هذه المحنة العصيبة..! وقل ذات الشيء بالنسبة لعلماء الأمة وخطبائها في كل أقاليم الدنيا –اللهم إلا الشيخ المجاهد يوسف القرضاوي حفظه الله الذي ألف الحف وألفه الحق :
مازال مذ عقدت منه الإزار يد ** صبا مشوقا بأنواع العلا كلفا
إنه مما يحز في القلب أن يتراجع العلماء عن الصدارة وأن يكتفوا بالعيش على الهامش والسير خلف القافلة أيا كانت وجهتها .وهم حملة هذا الدين العظيم وهم سدنته إن ضيعوه ضاع وإن حفظوه حفظ .وهم الأولى بالوقوف إلى جانب الحق والعدل والكرامة .
إن مبدأ السكوت والحياد السلبي ليس من شيم العلماء الذين يلقنون الناس صباح مساء أن "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله"
..ولعل ذلك التقهقر من العوامل الأساسية التي مكنت للطواغيت أن يحكموا هذه الأمة بالحديد والنار عقودا طويلة .لكن ذلك لم يمنع الشعب المصري أن يحدد المساجد مركز انطلاق جمعة الغضب .وجمعة الرحيل.
لقد تولى عنهم آخرون تصدر المشهد ومقارعة "الفراعين" وبداية الشرارة ومع ذلك ما زالوا مضيعين للأمانة التي حملوها متخلين عن الرسالة التي يجب أداؤها مخالفين بذلك نصوصا طالما لاكتها ألسنتهم ولهجت بها حناجرهم ..فمتى تصل إلى القلوب وتلامس الشغاف؟
لا أريد الحديث عن الذين نكصوا على أعقابهم فرضوا بالانحياز للأنظمة الفاسدة فأولئك أعظم جرما وليس من وصف لهم سوى أنهم علماء السلطة وعملاء الشرطة كما وصفهم الشيخ القرضاوي.
ويقينا لو اجتمعت همة الشباب وإرادة الشعوب وتوجيه العلماء لدكت الأمة كل عروش الطغاة ولأراحت منهم العباد والبلاد..وأحس الإنسان في ربوعنا المكلومة بكرامته وعزته داخل وطنه؟
فمتى يلتئم هذا الشمل المبارك؟