من الحماقة بمكان أن نعيش التاريخ، بدل قراءته كما هو معتاد، ولا نستوعب الدرس، حزب حاكم ثان على مرمى حجر من بلدنا، كما ظهر في الفضائيات ، ينهار نظامه في أقل من شهر دون أن يتمكن من القيام بحركة، ألا يدعونا هذا لأن نتساءل عن جدوى فكرة الحزب الحاكم، وقدرته في حماية النظم الديمقراطية الناشئة التي لم يستقم عودها بعد.
قبل خمس سنوات وأشهر،عشنا التجربة ذاتها مع الحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، قبل سنتين ونيف عشنا نفس التجربة مع حزب "عادل"، وقبل أكثر من ثلاثين سنة كانت البداية مع حزب الشعب، مع اختلاف في بعض التفاصيل ، ألا يكفى هذا لدفعنا لنتخلى عن التمسك بهذه الأسلوب، الذي ظهر أنه يحمل في ثناياه أسباب اضمحلاله وفي طياته عوامل فنائه، فلتكن بأيدينا لا بيد عمرو...
لم يعد من الضروري ان نبقى مكتوفي الأيدي أمام ما يحدث أمامنا، دون أن نحرك ساكنا، متمسكين بنظرية اختلاف الظروف الموضوعية لكل بلد، والتباعد الجغرافيا الذي أصبح في خبر كان بعد الثورة الرقمية التي عصفت بالعالم خلال العقود الأخيرة.
صحيح أن موريتانيا تختلف عن تونس، لكن تونس التي تختلف عن مصر انهار نظامها، في ظل غياب كامل لأي دور للحزب الحاكم، مما يكشف بان الأحزاب الحاكمة لم تعد ضرورية للشعوب، بعد نهاية العقد الأول للقرن الواحد والعشرين، وأكدت الوقائع أنها لا تملك العمق الشعبي الحقيقي الذي يتيح لها حماية أنظمتها، التي تدعى أنها تمثلها وحاملة لواء مشروعها المجتمعي، رغم أنها مترهلة بعدد منتسبيها، مما يفقدها شرعية الهيمنة على المشهد السياسي.
إننا هنا لا نطالب بحل الحزب الحاكم، الذي يمكن أن يضعف من دور الأحزاب بصورة عامة، والتي بوجودها وتنوعها، تشكل صمام الأمان للنظام الديمقراطي، الذي هو الأسلوب الأمثل لحد الآن في إدارة شؤون الشعوب، حسب ما توصل إليه العقل البشري، لكننا ندعو إلى رفع الهالة التي تحيط بهذا الحزب الحاكم، ووضعه في حجمه الطبيعي مع مختلف أحزاب الأغلبية التي أمنت الفوز للرئيس.
وهذا لن يتأتى إلا بإعلان رئيس الجمهورية المنتخب، استقالته الكاملة من الحزب الذي كان ينتسب إليه أو يقوده، وأن يأخذ مسافة متساوية من مختلف الأحزاب الداعمة له ـ على الأقل من الناحية النظرية!! ـ وأن تقتصر هذه العلاقة على الأحزاب ذات العمق الشعبي، والتي تبرهن عليه من خلال تمثيلها في المجالس البلدية والهيئات التشريعية المنتخبة بشكل شفاف.
لقد آمنت لحظة نصف النجاح الذي حققته الثورة التونسية، وأكد شعب مصر ذلك اليوم، رغم قناعتي باختلاف وضع بلدنا ، أن سقف طموحات فئة الشباب في مختلف البلدان ستتصاعد بشكل مستمر، أقله أن تشرك في تسيير بلدانها، فالتغيير، وتحسين أوضاع الفقراء، وبقية المطالب الاجتماعية، ومحاربة الفساد، شعارات لم تعد تكفى، ما لم تقرن بالقطيعة مع ظاهرة المزاوجة بين الثروة السلطةـ لنتذكر أننا في وجه استحقاقات انتخابيةـ أم العقد، والتي تنخر في ديمقراطيتنا و أفرغتها من مضامينها الحقيقة.
ان التغيير برجال الأنظمة السابقة من الصف الثالث والرابع، الذين بدلو جلودهم وركبوا الموجة لم يعد مقنعا، تغيير الوجوه القديمة بفئة جديدة من صيادي الجوائز همهم الأكبر الوصول إلى مستوى الثراء الذي وصل إليه رجال الجيل السابق مهزلة.
أما تجاهل الطبقة الوسطى ـ في الخطاب السياسي على الأقل ـ التي تضم غالبية الموظفين وصغار رجال الأعمال لصالح الفقراء ـ الأثرياء لهم رب يحميهم ـ يشكل كسرا للعمود الفقري للبلد مما يفقد أي إصلاح أو تغيير سندا حقيقيا وقويا.
وبالعودة إلى علاقة رئيس الجمهورية بالحزب الحاكم فانه من الضروري تكريس خطوة انسحابه من الحزب بتعديل قانوني يلزم الرؤساء مستقبلا بالخروج من أحزابهم مباشرة بعد فوزهم في الانتخابات.
لقد تخلينا سابقا عن فكرة الحزب الواحد، كما تخلينا عن قيادة الرئيس للحزب الحاكم، فكانت الخطوات ايجابية، فلنتخل عن انتساب الرئيس للحزب ليمنح الأخير فرصة الوقوف على رجليه، وتعطى الأحزاب الداعمة للرئيس فرصة عادلة، وليتحرر الرئيس من التزامات حزبية في غنى عنها تعيق أداءه وتقيده.
شيئ آخر على الرئيس المنتخب أن يعيه، ولا أقصد هنا وعي ولا فهم مبارك أو زين العابدين، هو أن المعارضة بشطحاتها وأخطائها في تقدير الأمور، مشهد من اللوحة الديمقراطية، لا تكتمل بدونه، وبالتالي فإن إضعافها بالإقصاء والتهميش، يخرج اللعبة عن قواعدها، ويحرم من سيلتحق منها غدا بالأغلبية، أو من يصل يوما ما إلى السلطةـ بافتراض أن التناوب احد سنن الديمقراطية ـ من الخبرة التي تمكنها من تطوير البناء الذي أسس له.
كما أن أقل قليل الإجماع يبقى الوضع أفضل، بدل زيادة الهوة الذي يقود إلى المجهول الذي قد يسقط الخطوط الحمراء.