ما من شك في أن الذي يستطيع إطفاء الحرائق المشتعلة للتطرف والإرهاب والإفراط والتفريط، وكل صور الانحراف، عن منهج الإسلام وشريعته وقيمه، هم وحدهم العلماء، الربانيون، والفقهاء المتبصر من من نور الله بصائرهم بالإيمان، وزكى عملهم وألهمهم رشدهم بالفقه فيدين الله، وأجرى الحكمة على ألسنتهم ووفقهم في عملهم بالولاء لدينه والبراءة من أعدائه، وشانئي تطبيق أحكامه، ولم يكنوا في عملهم ولا في مواقفهم أداة للبغاة، الخارجين على أحكامه،
أو السلاطين المعطلين لأحكام دينه، والموالين لأعداء الدين، والذين تتجه كل نصوص الوحي في صريحها وعمومها من موالاتهم ومخالطتهم .
وبلاؤنا اليوم ومصيبتنا تتمثل أخطر جوانبها، في ذلك الصنف الرديء من علماء السلطان من من لا يزيدوا السلطان الحاكم إلا خبالاً، ولا يهدوهم إلا سواء السبيل، فبدل أن ينفقوا أوقاتهم في إحياء الأمة من رقادها، أنفقوها في الكيد لقرين، أو التسابق في طريق الوشاية عند السلطان !! وما أصدق فيهم وفي أمثالهم قول الفضيل بن عياض:( إذا رأيت العالم يتردد على أبواب السلاطين فاعلم أنه لص)، والصوص لا ينصرون الدين ولا يرفعون من شأن القيم، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قولته البيانية لطرف من الوحي والتي أبان فيها سمة أساسية من سمات منهج الله، وعمدة عميدة من عماد النظام الإسلامي، أنه شاملٌ لكل مجالات الحياة، وأنه جزء واحد لا يتجزء، حين قال لوفد بني شيبان
ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك.
وفقهاء المالكية يرون في فقههم وتدينهم أن الدخول على السلاطين ومخالطتهم والإكثار من الدخول عليهم، مهما كانوا، هو في حد ذاته عين البلاء والابتلاء، وطريق السالك لتحصيل الشقاء، وهم في كل ذلك يعملون وينطلقون من إعمال وإدراك دور المصالح والمفاسد وتحقيق مقاصد الشارع.. والعالم الفقيه عندهم مطالب في كل وقت وحين بتأمل وفقه النصوص والآثار الواردة، والمخوفة والمرهبة من الدخول على السلاطين، وقد ساق من ذلك الإمام السيوطي رحمه الله ( ت : 911هـ ) الكثير في كتابه:"ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين".
ومن ذلك ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:" من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً" أخرجه أحمد والبيهقي بسند صحيح، وذكره الألباني في (الأحاديث الصحيحة) ج / 3 ص : 276 برقم : 1272 ، .
قال ابن المبارك- رحمه الله-: "من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما موت يذهب علمه، وإما ينسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه"، سير أعلام النبلاء . 8 / 352- 353 .
وقال أبو حازم(سلمة بن دينار):"إن خير الأمراء من أحب العلماء، وأن شر العلماء من أحب الأمراء" .
والسؤال هنا وارد عن أي نوع: هل كل الأمراء والسلاطين داخلين في هذا المعنى من التحذير والترهيب أم أن المراد بكل ذلك، هو نوع خاص من الأمراء والسلاطين، والذي لا خلاف فيه أنهم بالأولى هم الفجار الظلمة المستبدون الجائرون، الموالون الأعداء الإسلام، المستبيحون لبيضة المسلمين والمستحلون لأموال ودماء وأعراض المسلمين، يقول الفقيه المحدث المالكي ابن عبد البر-رحمه الله- مبيناً هذا المعنى ومجيباً على تلك التساؤلات وبعد أن أورد الأحاديث والآثار الواردة في النهي عن المجيء إلى السلاطين، قال:" معنى هذا كله في السلطان الجائر الفاسق، وأما العدل منهم الفاضل فمداخلته وعونه على الصلاح من أفضل أعمال البر، ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز إنما كان يصحبه جلّة العلماء"، جامع بيان العلم وفضله . 1 / 227 .
وقال علامة الأندلس ابن حزم وهو ينصح العالم في رسالته(مراتب العلوم):" وإن ابتلي بصحبة سلطان فقد ابتلي بعظيم البلايا، وعرض للخطر الشنيع في ذهاب دينه وذهاب نفسه، وشغل باله، وترادف همومه.."، مجموعة رسائل ابن حزم الأندلسي . 4 / 76 . وهذا كلام عالم من أفقه الناس بأخلاق الملوك وصفاتهم .
والمعروف من فقه وقواعد السياسة الشرعية أن الحكام داخلون تحت ولاية العلماء، وذلك أن مشروعية واجب الحكام والسلاطين أن يحكموا وفق الشريعة الإسلامية، وبما يبينه العلماء، والعلماء هم المرجع في بيان أصول وقواعد وقيم الشريعة الإسلامية وتوضيح أحكامها، فيكون الحكام والسلاطين من هذه الناحية داخلون تحت سلطان وولاية العلماء وخاضعون لطاعتهم فيما يبينونه من الأحكام الشرعية، وليس العكس صحيحا مطلقا .
ومن الأقوال المشهورة في بيان ذلك عبارة أبي الأسود الدؤلي الذي قال:" ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك"، إحياء علوم الدين ، أبو حامد الغزالي : 1 / 47 .
ومن حكم النقول والأقوال التي فصلت القول وتوسعت في بيان تلك العلاقة بين العلماء والحكام ما قرره الفقيه الحنبلي الأمام ابن القيم- رحمه الله-، بعد حكايته للقولين في تفسير أولي الأمر أنهم العلماء أو الأمراء، فقال:"والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء. ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء وكان الناس كلهم لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف:(صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل من هم ؟ قال: الملوك والعلماء)، إعلام الموقعين عن رب العالمين . 1 / 10 .
وصلاح الأمة بصلاح علمائها، مخرجاته، هو أن يرزق الله الأمة بحاكم من أمثال عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه-، يحكم بالعدل ويقرب العلماء، ويتبعهم، ويحفظ الرعية ويحافظ على بيت مال المسلمين فقد ورد في سيرته أنه قال لعمرو بن مهاجر:"إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يديك في تلبابي، ثم هزني ثم قل: يا عمر ما تصنع".
ورحم الله الفقيه المربي إبراهيم بن أدهم، إذ كام يقول:( كل ملك لا يكون عادلاً فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون تقياً فهو الذئب سواء، وكل من ذل لغير الله فهو والكلب سواء) .
وما أحزجنا اليوم إلى فقهاء، يتمثلون حقيقة قول الفاروق عمر- رضي الله عنه-" لست بخب ولا الخب يخدعني"، والإمام محيي الدين ابن الجوزي- رحمه الله-قال:عندما أرسله الخليفة العباسي المستعصم بالله إلى السلطان جلال الدين منكبرتي بعد استباحته لإحدى مدن المسلمين، فلما دخل ابن الجوزي عليه وجد السلطان جلال الدين يبكي وبين يديه المصحف، محاولاً خداع ابن الجوزي، فصاح ابن الجوزي في وجهه وقال له:(تقرأ في المصحف وتبكي، وأنت تفعل بالمسلمين ما تفعل، لقد قتلت عشرين ألف مسلم، وسبيت نسائهم، وفعلت ما فعلت؟) .
وكان الإمام الشافعي – رحمه الله-يقول:(أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف)، وعلى تلك القواعد، وبحثا عن المصلحة ودفعا للمفسدة، تباينت مناهج علماء السلف في السبل والتففت في الغايات، من الدخول على السلاطين والأمراء أو الامتناع عن الدخول عليهم، فسفيان الثوري: كان يقاطع مجالس السلاطين ويعتزلها، وتفرغ للحديث ولطلبته، وقابله أنموذج آخر من المحدثين هو محمد بن شهاب الزهري، فقد دخل على خلفاء بني أمية، ومع دخوله لم يعط الدنية لدينه فها هو يقف كالجبل أمام الخليفة هشام بن عبد الملك كما ذكر ذلك الذهبي في السير لما قال له: من الذي تولى كبره منهم ؟ فقال: هو عبد الله بن أبي، قال: كذبت هو علي بن أبي طالب، فقال الزهري: أنا اكذب ( لا أبا لك ) فو الله لو نادى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد وعلقمة بن وقاص عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي .
ومثله في الصدع بالحق، أحمد بن محمد الخراساني النوري صاحب الجنيد، كان إذا رأى منكراً غيره ولو كان فيه تلفه، نزل يوماً فرأى زورقاً فيه ثلاثون دناً، فقال للملاح: ما هذا ؟ قال: ما يلزمك ؟ فألح عليه، فقال: أنت والله صوفي كثير الفضول، هذا خمر للمعتضد-الخليفة العباسي- قال: أعطني ذلك المدرى فاغتاظ وقال لأجيره: ناوله حتى أبصر ما يصنع، فأخذه ونزل فكسرها كلها، فأدخل على المعتضد فقال: من أنت ويلك ؟ قال: محتسب، قال: ومن ولاك الحسبة ؟ قال: الذي ولاك الإمامة يا أمير المؤمنين ! فأطرق، وقال: ما حملك على فعلك ؟ قال: شفقة مني عليك ! فتركه وأخلا سبيل، نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء : 2 / 1022 .
وكان الإمام مالك يجاهر بقوله: من يكره الناس على اختياره خليفة تحت أي ضغط فلا بيعة له وقد سجن وعذب بسبب رأيه هذا. (العلل ص186). وكان يقول:( ضربت فيما ضرب فيه بن المسيب ومحمد بن المنكدر وربيعة، ولا خير فيمن لا يؤذى في هذا الأمر) (تاريخ الذهبي 9/331).
فما تقولون يا فقهاء السلطان وحكماء فقه الأمراء في بيعة من يزور إرادة الناس ويكره الأموات في قبورهم على مبايعته ؟
إن الذي يداهن الظالم خوفا من أذاه لا خير منه ينتظر ولا إصلاح منه يرتجي، وهو ظفر لسيده وناب، فيه والخير في من يقول الحق فيؤذى.
حبس سفيان الثوري وابن جريج وعباد بن كثير لأنهم ناوءوا سياسة أبي جعفر المنصور (الطبري 4/515. وأخرج الرافعي غب(تاريخ قزوين).
عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-" إن أبغض الخلق إلى الله تعالى العالم يزور العمال"لفظ أبي الفتيان:"إن أهون الخلق على الله: العالم يزور العمال".
وأخرج ابن ماجه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"إن أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء".
وأخرج الديلمي في(مسند الفردوس)، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنه لص".
وأخرج ابن عدي عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:"إن في جهنم واديا تستعيذ منه كل يوم سبعين مرة، أعده الله للقراء المرائين في أعمالهم وإن أبغض الخلق إلى الله عالم السلطان".
وأخرج الترمذي وصححه، والنسائي، والحاكم وصححه، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني، وأنا منه، وهو وارد علي الحوض".
وفي تاريخ الجبرتي أن الفقيه المالكي الدرديري شكا إليه الناس ظلم الحكام في زمانه بوضع الضرائيب المجحفة عليهم، فأمرهم بالاجتماع من الغد وسار بهم في مسيرة أو مظاهرة نحو القصر فأسقط تلك القرارات كلها وهدد السلطان بالثورة والسقوط المدوي، ومعلومة هي ثورت فقهاء المالكية في الغرب الإسلامي بقيادة الفقيه ابن خيرون التي أسقطت الدولة الفاطمية والموقفان الأخيران سيكونان بداية المقال القادم إن شاء الله . يتواصل