في بادئ هذه المعالجة على قيادات الحراك الحقوقي عموما ، و قيادات الحراطين خصوصا ، الوعي أن النقد هدف سامي إيجابي يدعو إلى تجنب الأخطاء وتصحيح المسار من أجل البناء الهادف للوصول للغايات، و لا يستهدف فقط تقييم السلبيات والإيجابيات ، بل ويقدم المقترحات والحلول البناءة للقضاء على السلبيات وتأكيد الإيجابيات .
مثل الكتاب الأبيض الأدبية الحرطانية الوحيدة التي نتملكها كمنتج صادر عن منظمة تحرير وانعتاق الحراطين " الحر" وهي في عقدها الرابع ، والوحيد الذي بين أيدينا وسنخضعه للمساءلة والنقد ، إذ تضمن الكتاب الأبيض مقدمة و 6 فصول وملحق للميثاق الأساسي للحر ، وعموما أبدعت الحر في تشخيص واقع الحراطين ووفقت لحد كبير في تقديم الحلول النظرية لحلحلة معضلة الحراطين بدون أن تقدم إجابة على أية إستراتيجية لفرض الحلول وتجاوز واقع الحراطين المفعم بالبؤس والظلم والعبودية ، لقد تمكن الكتاب الأبيض للحر من تشخيص واقع الحراطين تشخيصا شاملا مكتمل العناصر واضعا يده على مكمن الخلل ، وأرى أنه لو عمل الكل على تبني الحلول التي اقترحت فيه لأمكن تجاوز واقع الحراطين الصعب خلال الأربعين سنة الخالية ، وذكر الكتاب الأبيض " الحراطين " 108 مرة ، وكلمة " العبودية " 32 مرة ، وكلمة "الإقصاء الظلم التهميش القهر ومدلولاتهم " 56 مرة ، "موريتانيا ومدلولاتها " 24 مرة ، العدل الحرية المساواة الاستقرار 24 مرة ، الجماعية والوحدة 36 مرة ، القبيلة 08 مرات ، العنصرية 08 مرات ، وكلمة الحر 32 مرة .
الحر وإشكالية التعريف
قدم الكتاب الأبيض ثلاثة تعريفات لحركة الحر كلا منها يحمل دلالة ومضمون مغاير للآخر ، ففي الصفحة العاشرة من الكتاب الأبيض عرفت الحر على أنها " حركة سياسية اجتماعية ظهرت كردة فعل على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمدنية للحراطين في سبعينيات القرن الماضي .... " ، كما عرفت حركة الحر في الملحق 1 بالكتاب الأبيض ص 20 ، المادة 1 بأنها "حركة الحراطين الموريتانيين" التي تحمل على عاتقها مسؤولية النضال المستمر من أجل الحرية والانعتاق والمساواة والذود عن كرامة ومجد الحراطين تحت اسم منظمة تحرير وانعتاق الحراطين " الحر " ، و في ص 11 من الكتاب الأبيض عرفت الحر على أنها " حركة سياسية واجتماعية ظهرت كردة فعل على الأوضاع " ، ومهما كانت التعريفات المتباينة التي قدمتها الحر كتعريف لماهيتها يظل تأسيسها يشكل ميلاد أول تيار وطني يعنى بالنضال السلمي من أجل أن تأخذ مكونة الحراطين مكانتها اللائقة وتستعيد كرامتها المسلوبة وحقوقها المغتصبة ، حتى تساهم بصورة فعالة في بناء الدولة على أسس تذوب معها الفوارق ، وتسود فيها قيم الحرية والعدالة والمساواة .
الحر بين : غياب المؤسسية واستراتيجية الخيار السياسي
ليس من الخفي أن الحر رغم جسامة المهام والأهداف التي تسعى لتحقيقها والتي تتجاوز كثيرا الجوانب الاجتماعية المحضة على مدار تاريخها لم تتسم بقدر كاف من المؤسسية خصوصا في آليات عملها ، ففي ص 20 من الكتاب الأبيض جاء أن " الحر تعتزم ممارسة العمل السياسي الذي هو وحده الكفيل بحل المشاكل المطروحة " ، تثير هذه الفقرة التساؤل ، هل كان العمل السياسي لوحده كفيلا بحل مشكل الحراطين خصوصا وأنه رغم مرور 40 عاما على الحر فإن كل مطالبها إلى اللحظة الراهنة ما زالت مطالب مؤجلة ومفتوحة ، مما يعكس إخفاق الحركة " الحر " في رسم استراتيجية الخيار السياسي كحل في ظل غياب الموازنة والحسم داخل الحركة بين ثنائيتي القيادة ونزوعها السياسي في مواجهة الأنظمة السياسية ، غياب خطاب ذا خصوصية يعبر عن حركة الحر و " فكرها " ، مما أدى لاضطراب الحركة منذ تأسيسها إلى اليوم ، فاستبدلت الحر عبر تاريخها رموزها القيادية بالقيادات السياسية مما أدى لخسارة مساحات كبيرة من الصلات والفاعلية ، في ظل غياب أي نظام يحدد طريقة تقرير القرار ضمن الحركة وانعدام المؤسسية مما أثر بشكل بالغ وجذر الانقسام في جسم الحركة إلى يومنا هذا ، فكانت أبرز المشكلات التي وقعت فيها الحر ــ ولا تزال تقع فيها ــ اعتبارها حزب العمل من أجل التغيير والتحالف فيما بعد والمستقبل اليوم أذرع سياسية لها لإدارة معاركها السياسية ، وحملتهم وتحملهم بشخوصها ومقارها المختلفة المهام التي منتظر أن تضطلع بها ، في ظل غياب أي رؤية للحركة في المجال السياسي .
معوقات الحر خلال 4 عقود
أربعة عقود على مرور أول تنظيم حركي للحراطين ، ورغم ذلك عاجزون عن فرض تبوءهم مكانتهم اللائقة ، لكي تسود قيم الحرية والعدالة والمساواة ، ولعل الفشل العميق لحركة الحر كتنظيم حركي في فرض إنصاف الحراطين يعود لجملة من المعوقات الذاتية اكتنفت مسار الحركة من التأسيس إلى اللحظة الراهنة ، وتتحمل المسؤولية الجسيمة في ذلك وبدرجة أولى حركة الحر كتنظيم حينما لم تضع استراتيجية تجيب على منهجية إخراج الحراطين مما هم ، فلن يكون للحراطين شأو في المستقبل ما لم يعملوا على تجاوزالمعوقات التالية :
ـــ طريقة تسيير الحركة المنفرة للعديد من أصحاب الرأي فأين هم رواد العلوم الإنسانية خريجي علم الإجتماع والفلسفة داخل الحركة ، فكيان حركة الحر على مر تاريخه كما هو مشاهد عاجز عن دمج ــ أو طارد ــ لمعظم أصحاب الرأي والفكر .
ـــ اختزال حركة الحر في أجنحة شخصانية فردية مما يكرس الصورة النمطية حيال حركة الحر كتنظيم حركي ، ويتجاوز النصوص التي عرفت الحركة على أنها " حركة الحراطين الموريتانيين " بعموم صفتهم مما يعني أن الحر شمولية بغض النظر عن المواقف السياسيوية أو مواقف البعض من البعض الآخر ، ولا ترتبط بشخص عن آخر ، ولا بتنظيم حزبي عن آخر .
ـــ غياب وحدة الهدف في ظل تعدد التنظيمات التي تنافح عن قضية الحراطين أو تتخذها كمركزية في نضالها .
ــ التركيز على الجانب العملياتي والحركي أكثر من الفكري ، ولعل هذا ما تغرق فيه كل الكيانات التي تهتم بقضية الحراطين كقضية مركزية وإلى حد اليوم .
ـــ غياب مراكز في الخارج تمثل الحركة أو تحمل مشعل الحراطين كممثلين " لحركة الحراطين الموريتانيين " ، يخدمون أهدافها ومراميها ، لا خدمة ذواتهم الشخصية .
ــ نصرة الأشخاص وموالاتهم على حساب الانحياز للمبادئ والقيم التي انطلقت منها الحركة ، والأهداف التي تسعى لتحقيقها .
ـــ غياب تصور مدروس رسمته الحركة في مجال الأهداف والاستراتيجيات.
ـــ غياب الحزب الوريث للحركة إلى الآن ، بل وحتى غيابهم كتحالف سياسي أو حقوقي وجمعيات طبية أو التواجد في الجامعات ، أو وجود الحراطين كتنظيم وفكر بمختلف المجالات ، فضلا عن غياب مؤسسات إعلامية محسوبة على الحراطين تسير وفق أهداف واستراتيجيات محكمة لا وفق نزوات ذاتوية ، فضلا عن غياب وجود منظمات تابعة للحر كحركة ، مما يجعل وجود الحر مجرد إسما بدون أي شبكة عنكبويتة ، فمع غياب أي نشاط خدماتي مؤسسي ينطلق من رؤية واضحة وأهداف محكمة ، فلن للحراطين تأثير ما لم يكن لهم مساهمات في مجال الرعاية الصحية ورعاية الفقراء والأيتام والتعليم ... الخ
ختاما لا يزال الاستعباد والتهميش والإقصاء المستمر وانسداد الأفق وانعدام الفرص سيد واقع الحراطين ، الذين رغم مرور 40 عاما على أول حركة نضالية لهم يعيشون شتى مظاهر التغيب بجميع أبعاده اجتماعية كانت أو ثقافية أو اقتصادية أوسياسية خصوصا في ظل نظام تعليمي صوري فاقد للمصداقية يتخبط فيه اليوم أبناء الحراطين خصوصا في ضواحي المدن وآدوابه ومناطق الهشاشة في الترحيل والكبه والأحياء الشعبية بالعواصم ، فضلا عن الممارسات الراسخة للدولة الموريتانية والرامية إلى استغلال الحراطين وتقزيم دورهم وإبقائهم في وضعية مهينة ضحيى لعذاب الفقر والبطالة والجهل ، رغم أنهم القوة الأكثر على المستوى الديمغرافي من مجموع سكان بلد يتجاوزون فيه حاجز 90% من مجموع اليد العاملة ، ومع كل ذلك يكرس واقع موريتانيا في جميع دروبه إقصاء سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ممنهجا للحراطين الذين يواجهون أكثر من أية فئة سوسيو- أثنية أخرى ، الظلم اليومي والاحتقار والنظرة الدونية التي تشمل القصور الحاصل في الولوج إلي ميادين التعليم والخدمات الاجتماعية الأساسية الأخرى ، وبالأخص حين يتعلق الأمر بالثروات الوطنية والحضور داخل هرم السلطة السياسية و الإدارية ، ليستمر غرق الحراطين رغم كل ما بذلوه ويبذلونه في مستنفع أوحال حالة عامة موسومة بالاستعباد ومخلفاته ، واللامبالاة من لدن سلطات عمومية مولودة من رحم التأسيس القائم على تغيب الحراطين ، متخذة من اللامساواة السلاح النافذ في حق الحراطين ، لأجل إبقاء غياب عقد اجتماعي جاد ومؤسس على قاعدة الانتماء المشترك لأمة موحدة ، فهل يستيقظ الحراطين بعد 40 عاما من سباتهم الطويل ويصلحون ما اكتنف أربعينيتهم ، أم يواصلون في النوم العميق في كنف التهميش ؟