ضريبة الجهل / د. يربان الحسين الخراشي

في أحد أيام الشتاء الباردة انطلقت بنا سيارة رباعية الدفع محملة من كل ما قلت قيمته، وثقل وزنه في رحلة من رحلات العمر التي تنسى، توجهنا صوب مخرج مدينة انواكشوط حوالي 11:45 صباحا، كانت السماء صافية، بحيث تكاد ترى النجوم نهارا في جو تغلب عليه الرياح الشتوية الموسمية، سرنا في البداية وسط كثبان رملية مرتفعة ممتدة على مد البصر، لكن المشهد سرعان ما تغير بعد مدينة أبي تلميت، حيث أصبحت الأرض منبسطة تكسوها حشائش جافة ومصفرة.

وصلنا مسيرنا، وبعد صلاة العصر بدأت قطعان البقر التي تقطع الطريق أمامنا يتحول لونها من الأحمر إلى الأبيض، ومن ذوات القرون القصيرة إلى ذوات القرون الطويلة، ولم يدم المشهد طويلا حتى اختلطت شبكة اتصال موريتانيا بشبكة الجارة السنغال، واختلطت أشياء أخرى، ولم يعد هناك حاجز بين عالمنا العربي والإفريقي سوى بركة ماء في أحد أهم روافد نهر صنهاج (نهر السنغال) شاهدة على قلة موسوم الأمطار في فصل الخريف المنصرم. 
وقبل صلاة العشاء بقليل بدأت رائحة دخان الحطب تعطر المكان برائحة تختلف تبعا لاختلاف نوع الحطب المشتعل، وبينما أنا استنشق رائحة الدخان، وأحاول أن استرجع بعض مهارت الطفولة، حيث التمييز بين الأشجار على أساس رائحة حطبها المحترق، توقفت السيارة، وصاح السائق بأعلى صوته: بإسم الله المبيت ليل هنا.

شيخ وقور يغالب الوقوف  يتمتم بصوت منخفض تفضلوا تفضلوا، ويحاول بيديه الكريمتين المرتعشتين أن يبسط لنا حصيرا مرقعا من كل الجهات،  فبادرت ومسكة بطرف الحصير، و قلت له متسائلا : أين الشباب؟
أجاب الشيخ الوقور كلهم رحلوا طلبا للرزق في انواكشوط، و انواذيبو، حاولت أن أستفسر أكثر عن مصير الشباب؟
حدثني الشيخ بحرقة ومرارة:  أحدهم  قيل لي أنه  غرربه وأصبح من أصحاب البنطلونات الساقطة يمارس السلب والسطو ليل نهار،  والثاني مرت على قاربه الصغير في عرض البحر سفينة كبيرة، وهو مفقود منذ سنتين، ولم نسمع عنه خبرا ..فبادرته متسائلا: وماذا عن السفينة؟  رد الشيخ الوقور : قيل أنها لشركة صينية، وقيل أنها لشركة اسبانية، وقال آخر أنها لشركة روسية،  وأردف قائلا : أما ابني الأصغر فقد أصبح طالبا في حضرة أحد المشايخ الصوفية  يلازمه و يخدمه في حله وترحاله، وقد اختتم الشيخ حديثه، ونظراته تختزل الكثير من الكلام بجملة "هذه ضريبة الجهل" لم استطع مواصلة النظهر في عيون الشيخ، وأنا الذي درست حتى الدكتوراه على حساب أموال دافعي الضرائب من بينهم الشيخ، ومن هم على شاكلته، وقلت في نفسي ليتها كانت ضريبة الجهل وحدها بل يضاف إليها ضريبة تخاذل النخب الوطنية بكافة أطيافها، وتخليها عن القيام بمسؤولياتها اتجاه الوطن.
في صباح اليوم الثاني لم نشاهد إلى الشيوخ، والأطفال، والدجاج ، والحمير كانت ظلمة الليل المعتمة تخفي عنا الكثير، حينها تمنيت لو بقى الليل سرمدا إلى يوم القيامة.

لم ولن أنسى ذلك الطفل الذي يسرق النظر من وراء ما يتوهم أنه باب للكوخ الصغير، و في الحقيقة ليس إلا بقية من جسم سيارة وقعت في حادث مروري، وما أكثر الحوادث على طريق الموت هذا، لن أنسى تلك النظرات البريئة،  التي شعرت بأنها تحاكمني على إخلالي وتقصيري تجاه مسؤوليتي الوطنية. 

غادرت مضارب بني حرطان، ولسان  حالي يقول سامحني يا صغيري نحن النخبة الوطنية لم نحقق أي شيئ يذكر لهذا الوطن، الذي اختطفته زمرة من العسكر المهزومين في حرب الأشقاء المفروضة بواقع أجندة إقليمية، ودولية، ويبدو أن الزمرة العسكرة التي اختطفت البلد لم تسلم هي الأخرى من عملية اختطاف على يد أحدهم !

تحركت السيارة، فاتحة المجال لنسيم عليل ، فاسترسلت في النوم، و رأيت فيما يرى النائم  أن الطفل الصغير أصبح شابا متعلما  تخرج من كلية الزراعة الكائنة في عاصمة المقاطعة، ويملك مزرعة، ومؤسسة صغيرة  في مسقط رأسه تسوق على الشبكة العنكبوتية، وتصدر الفواكه والخضار المزروعة بشكل تقليدي إلى أوروبا وآسيا، وهو مقدم على زواج من ابنة جاره الذي يملك مزرعة عصرية لتربية الأبقار تصدر منتوجاتها من لبن، وجبن، ولحم لدول افريقيا الغربية، بعد تصنيعها في مصنع صديق للبيئة  ذكي ذاتي الإدارة يبعد عن المزرعة حوالي 20 كلم.

فجأة مرت السيارة المتهالكة من فوق مطب، فقفزت حتى كدنا نخرج منها، فاستيقظت لاكتشف أن المطب ليس إل جثة بقرة  نفقت قبل أن ينقذها برنامج التدخل السريع للمواشي، و أن زواج الطفل الصغير مجرد أضغاث أحلام.
إن الحلم  يبقى حلما حتى يجد من يحوله إلى حقيقة، ترى كم من نخبنا الوطنية مستعد لرفع تحدي ضريبة الجهل عن كاهل مئات الآلاف من أبناء شعبنا الأبي  خاصة في  تجمعات آدواب حتى يتحول هذا الحلم الجميل، وما يحمله من دلالات اقتصادية واجتماعية إلى حقيقة.


 

4. أبريل 2018 - 15:09

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا