لا صوت يعلو على صوت ويكيليكس، هذه الأيام في موريتانيا، عاصفة الوثائق السرية المسربة من طرف الموقع الأشهر عالميا ، والتي تلف العالم منذ أسابيع، نكأت جرحا لم يندمل بعد في موريتانيا، وضربت في مقتل بنبشها في مرحلة الازمة السياسية، التي أعقبت انقلاب أغسطس 2008.
التسريبات تضمنت، نشر وثائق لسفارة الولايات المتحدة في نواكشوط، كان يعتقد أنها تدخل تحت بند السرية الكاملة،حول لقاءات عقدها مسؤولون بالسفارة وبعض كبار موظفي وزارة الخارجية الأمريكية مع بعض قادة ونشطاء الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية التي تشكلت عقب الانقلاب في مسعى لإفشاله.
العاصفة، خلفت جدلا خافتا لحد الآن داخل الساحة السياسية الموريتانية، وقابل للانفجار في أية لحظة، بعد الكشف عن ما قيل بأنه مساعي بعض قادة الجبهة، لمحاولة قلب نظام الحكم، مستعينين في ذلك بجهات أجنبية، بصيغ أثارت صدمة في نفوس عدد من الموريتانيين.
كشف المستور، يوشك على توريط احد أعضاء مجلس الشيوخ ـ رغم تمسك السلطات بالصمت حيال القضية ـ الذي طالب السفارة حسب الوثائق بربطه باسرائيل، لإشعال ثورة عرقية، و اغتيال رئيس الدولة حينها محمد ولد عبد العزيز.
السناتور المحسوب حاليا على الحزب الحاكم، نفى جملة وتفصيلا، ما ورد في الوثيقة.
تسريب آخر، تداعياته قد تكون الأخطر، ولربما تعيد العلاقة ما بين المعارضة والنظام، الى مربع التأزم ، بعد الانفراج الطفيف، الذي شهدته هذه العلاقة، باعلان رئيس الجمهورية، في خطابه بمناسبة الذكرى الخمسين لعيد الاستقلال الوطني ، عن استعداده ، لفتح حوار مع المعارضة، بعد عام ونيف من الاستقطاب السياسي، وهذا ماتلقفته المعارضة حينها، بارتياح، كبير معبرة عن استعدادها لهذا الحوار.
التسريب الصادم للطبقة السياسية تضمن حديث لولد مولود، رئيس حزب اتحاد قوى التقدم، الذي يؤكد دوما رفضه القاطع للانقلابات، وتشبثه اللامشروط بالتغيير السلمي والذي دفعه في مرحلة حرجة من تاريخ البلد ان يتبنى سياسية "المساومة" مع نظام ولد الطائع أحد أكثر الأنظمة الموريتانية قمعا وتهميشا للمعارضة، ولد مولود تدارس خلال حديثه مع المسؤول الأمريكي ـ كما ورد في الوثيقة ـ إمكانية الانقلاب على ولد عبد العزيز، مستغلا في ذلك، ابتعاده النسبي عن السلطة،خلال الانتخابات، وإمكانية زرع الشقاق بينه ورفيقه الجنرال قائد الأركان الحالي غزواني.
ولد مولود، في بيان لحزبه ، اعتبر ما نشر، مجرد قراءة وتخمينات، لمسؤول أمريكي، واتهم السلطات بفبركة التسريبات المتعلقة به.
اولى ردود الفعل الداخلية المحسوبة على النظام حول التسريبات جاءت على لسان نائب رئيس الحزب الحاكم محمد يحي ولد حرمة الذي قال ان الحزب سيدرس هذه الوثائق وعلى ضوء ذلك سيتخذ الحزب ما يراه مناسبا تارك الباب مفتوحا على كل الاحتمال خصوصا جانيها الأسوأ على الأقل بالنسبة لاتحاد قوى التقدم الذي جاء بيانه تصعيديا.
لقد استطاع ويكيليكس ان يخترق جدار الكتمان الذي أحاط بمرحلة حساسة من التاريخ السياسي للبلد ملقيا الضوء على مواقف بعض الساسة التي يصعب فهمها ولم يحن بعد الوقت المناسب لمساءلتهم حولها وان كان من الأفضل ان تترك محاسبتهم على ذلك للتاريخ.
لكن الأهم كيف ستؤثر هذه التسريبات على العلاقة المستقبلية مابين الطيف السياسي في البلد خصوصا المعارضة والنظام؟
ان توقيت نشر الوثائق،على أوسع نطاق ممكن في موريتانيا، وتلقف بعض وسائل الإعلام الوطنية والتركيز على لقاءات معينة، يثير أكثر من علامة استفهام، كما ان عدم الزج ببعض الأسماء المعارضة آنذاك، والتي التقت بمسئولين أمريكيين، في نفس الفترة، يثير علامات استفهام اكبر، خصوصا إذا ما قرنا ذلك بما كان ينتظر من انفراج في العلاقة بين من يعتقد أنهم متشددي المعارضة والنظام.
لا يخفى ان تلقف البعض لهذه الوثائق والتضخيم من شانها لا يمكن ان يكون تصرفا بريئا رغم ان الأمر قد لا تكون له علاقة بكره المعارضة او حبا بالنظام، بقدر ما هو سباق نحو قطع البعض الطريق على الآخر في سباق سيزيفي لكسب الحظوة لدى السلطة وتصفية لحسابات قادمة تطغى عليها التحالفات السياسية الطرفية أحيانا لتلاقي المصالح، لينفك الارتباط من جديد عند محاولة قطف ثمار الأداء السياسي خلال مرحلة معينة.
ان محاولة البعض تضخيم ما أورده ويكيليكس بصب الزيت على النار واقتطاعه خارج أطره الزمكانية يحمل المسالة أكثر مما تحتمل خصوصا إذا أفرغناه من الحالة النفسية والوضعية المربكة للفاعلين السياسيين خلال الأزمة التي كانت من أقسى الأزمات السياسية التي مر بها البلد منذ إنشاء الدولة الوطنية أضف إلى ذلك طبيعة الاجتهاد البشري وما يمكن ان يعتريه من كبوات.
ان محاولة جر النظام والمعارضة إلى قطيعة جديدة بعد ان لاح في الأفق إمكانية حصول الحد الأدنى من التفاهم يعتبر من قبيل المعارك الوهمية الخاسرة التي تنهك الطرفين في صراعات سرابية ستنعكس حتما على أدائهما في المعركة الحقيقة التي يجب أن تتوجه إليها جهود أبناء البلد والمتمثلة في التنمية والتي يبدو ان ثمة توجه نحو الدفع بها إلى الأمام.
من هنا بات من الضرورة بمكان ان يوقف مثيري الشقاق حملاتهم المكشوفة وعلى النظام الذي يوجد في موقف قوة أن يتسع صدره ويتجاوز عن الأخطاء المرتكبة في الماضي التي يمكن ان تدخل في إطار النوايا غير المعاقبة قانونا وعلى من مرتكبي هذه الأخطاء أن يمتلكوا الشجاعة الأخلاقية ليعترفوا بما بدر منه ويعتذروا للشعب الموريتاني عن ذلك لنقطع بذلك الطريق على من يرفض لهذا البلد ان يتقدم في طريق التوحد والبناء كل من موقعه في المعارضة او النظام .