الرَّق المنشورُ في الرِّقِّ المستور / محمد سيدي عبد الرحمن ابراهيم

الاسترقاق ظلم شنيع وممارسة قبيحة ولئن عرفتها أغلب المجتمعات إلا أنها
تظل مسيئة واخزة لكل ضمير حي فمجرد استضعاف الإنسان لمثيله، دون أساس شرعي، يعتبر فظيعا أحرى تسخيره للخدمة ومصادرة إنسانيته واعتباره مجرد
مال "موروث" يتمول به وينتقل الملك لعقبه.

وبعكس ما يتبناه بعض الموريتانيين من وجوب تجنب تناول موضوع الاستعباد
باعتباره مثيرا للحساسيات والشحناء فإني أعتقد أن الرِّق جرح غائر في جسد
المجتمع لن يتأتى علاجه إلا بتعريته وتنظيفه مهما كان ذلك مؤلما لأن
"الطلي على الشعر" عديم الجدوى كما هو ثابت في علاج الجروح ولذلك تجب
تعرية الاستعباد والتشهير ببقية مرتكبيه وعقابهم كي يرتدعوا (2) ولأن
الوطن للجميع فإن الحفاظ على سلامته والتفكير في تخفيف آلامه واجب على
جميع أبنائه (1) الذين يقع عليهم عبء البحث عن المعالجة الناجعة (3) التي
أعتقد أنها يتعين ان تتعقب الرق في بؤره وتسعى لتحرير من تبقى من الضحايا
ومساعدة أبنائهم المحرومين للاستفادة من ثمار التنمية (4) وجدير بالذكر
أن المتتبع لظاهرة الرق يلاحظ أنه بينما يهن الرق التقليدي ويضعف يشب
الرق المعاصر وتشتد صولته (5) ويظل التعليم أفضل بلسم ضد الرق فبه يسمو
الإنسان وبفضله أتيح للكثير من العصاميين من أبناء المحرومين، أرقاء
سابقين وغيرهم، أن يتعلموا ويرتقوا منبر السيادة ويغيروا من واقع أسرهم
(6) ولذلك يتعين العمل على تأسيس دولة عادلة تتبني سياسات تقوم على الحد
من توسع السجون والزيادة المتسارعة في أعداد نزلائها بينما يتراجع أداء
المدارس العمومية ويصبح التعليم دولة بين الأغنياء (7) وبخصوص
الإستراتيجية العامة ينبغي التفكير في انتهاج خطة ناجعة تقوم على استمرار
التعاضد بين مكونات المجتمع وإصلاح أسس الصلة بين أفراده بدلا من التركيز
على العقاب (8).
1.
تعتبر محاربة الرق والقضاء على آثاره من مسؤولية الدولة إلا أن نجاح
المسعى يتطلب مشاركة خاصة تستدعي التأمل وتضافر مختلف الاقتراحات والآراء
بهدف القضاء على الظاهرة ومن ذلك المنطلق أتيح لي مؤخرا نقاش موضوع الرق
مع نخبة تمثل رموزا من أبناء هذا الوطن من مختلف المشارب والتوجهات،
التقينا في شبه صدفة، مساء يوم الجمعة الماضي (30 مارس 2018) بمدينة
انواذيبو، في زمان ومكان قريبين من صدور الإدانات الأولى عن "المحكمة
الجنائية الشمالية المتخصصة بتجريم العبودية ومعاقبة الممارسات
الاستعبادية" فكان اللقاء مناسبة لتبادل الأفكار بشأن الظاهرة.
ولأنه لم يتسن تعميق النقاش مع الإخوة ومنهم ناشطون في محاربة الاسترقاق
أبدوا آراء وجيهة، لن أعبر عما حفظت منها، كي لا أفوت فرصة مطالعتها من
مصادرها لذلك ارتأيت البوح بما أعتقده كتابة وفي فضاء مفتوح لأتيح
للمهتمين أن يعبروا عما يرونه بطريقة مركزة تمكث في الأرض ويتبادل حولها
المواطنون بدلا من أن يظل نقاشنا حدثا عابرا.
2.
عرفت أغلب المجتمعات ظاهرة الاسترقاق بطريقة أو بأخرى ومنها موريتانيا
التي وإن تراجع الرق فيها وانحسر نطاق ممارسته إلا أن جيوبا مقاومة منه
لا تزال متحصنة في مناطق نائية يتعهدها الجهل والتخلف بعيدا عن مراكز
الإشعاع المدني كما لا يزال بعض الأرقاء يأبى طواعية التملص من ربقة الرق
ويتمسك ببقاء علاقته بأسياده كما كانت في ظاهرة معروفة ب"معط التيليت"
وهو ما يطرح إشكال مدى شرعية مصادرة إرادة الشخص البالغ المختار لإرغامه
على التحرر وطريقة ذلك؟ وقد حدثني أحد الثقات أن بعثة من منظمة حقوقية
تنقلت من انواكشوط لمعاينة حالات استعباد في الداخل وتوجت المهمة بتحرير
امرأة بينما رفضت عائلتها مبارحة المكان الذي ألفته ورغم أن الحقوقيين
عملوا لدمج المرأة في مجتمع انواكشوك إلا أنها لم تتمكن من التأقلم فما
لبثت أن عادت أدراجها إلى ذويها ومنشئها رغم محاولات الناشطين الحيلولة
دون ذلك. ومن المؤسف أن المجتمع الاستعبادي كان يستخدم الدين للتمكين
للظاهرة وبدلا من تعليم الأرقاء كان الأسياد يعملون على تجهيلهم
ويرهبونهم بما ينتظر الآبق من عقاب أخروي في مقابل الجزاء الوافر الذي
ينتظر الطائع الذي يسخر عمره لخدمة الأسياد ومن أفظع ممارسات الرق ما
صاحبه التعذيب ومن أقساه ما يذكر بأن المستعبد الذي يكرر محاولة الهرب
على أسياده كان يشد على ظهر ناقة ظمأى ويوثق قدماه بحبل يمرر من تحت بطن
الجزور ويخلى بينها وبين الماء لترتوي فيؤدى اتساع بطنها لانفتاح تدريجي
لحوض الرجل ومع ما يرافق العملية من آلام جسدية فظيعة فإن المطلوب هو
تباطؤ دائم لحركة الضحية حتى بعد اندمال جروحها الداخلية.. و"تلك أمة قد
خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت".
ومن أشنع آثار الاستعباد الباقية، التي تستوجب التطهير، ما يعشش في
الأذهان وكثيرا ما تفوه به البعض من عبارات تعيير جارحة تنم عن تغلغل
العقلية الاستعبادية في لاوعي مجتمع لم يستوعب جميع أفراده بعد مقدار
الإثم الذي تمثله الممارسة وما ترمز إليه من انحطاط وجدير بالملاحظة أن
هذه البذاءة اللفظية متداولة حتى بين أبناء الأرقاء السابقين أنفسهم.
3.
إن القضاء على الظواهر الاجتماعية المتجذرة يتطلب وقتا ونفسا كما أنه لا
يقتضي طمس الحقائق التاريخية لعبثية ذلك فحسب برامج محاربة الرق نجاحا
إحالة الممارسة للتقاعد بحيث تختفي الظاهرة وتستحيل مجرد ذكريات تشعر من
يستحضرها بالخجل وعزاؤنا أن لكل مجتمع إرث سيء لكنه لا سبيل لإعادة الزمن
لمحوه فعجلة التاريخ تمضي قدما ولا تتراجع والعمل المثمر ينبغي أن يتركز
على ضمان استمرار إبحار سفينة مجتمعنا في سبيل سالكة لأن جنوح المركب خطر
على جميع الركاب ومن المتعين التفكير في العواقب والسعي لتخفيف آلام
المستضعفين بدل مضاعفتها فعندما ترتفع الأمواج ويهتز المركب يتوقع أن
يكون من يتربصون عند الحافة أول المتضررين.
4.
وتتطلب محاربة آثار ظاهرة الرق استهدافها في النقاط الريفية في أحياء
تركيز أبناء الضحايا (آدوابه) وفي ضواحي المراكز الحضرية الكبرى حيث تقيم
نسبة معتبرة من المواطنين بنصيب محدود في التعليم وقليل من الحظ في ثمار
التنمية الأخرى ولئن كان أبناء الأرقاء هم أغلب من يعمر حفر التهميش
والإقصاء في ضواحي المدن إلا أنه يجدر بالملاحظة أن الفقر والحرمان غير
مقتصرين على أبناء الأرقاء السابقين وإنما طالا أبناء الأسياد السابقين
أيضا فقد أدت كارثة الجفاف إلى نزوح المواطنين المنمين أسيادا ومسودين
إلى المدن وأرغمهم ضيق ذات اليد وعدم ترخيص القطع الأرضية على الإقامة في
أكواخ خاطوها من الخشب وصفائح الخردة أغلبها من نفايات الشركات الكبرى
ومن هنا جاءت تسمية "المكبات" بحذف الميم كما هو دارج في الحسانية إلا أن
توفير التعليم للجميع كان حسنة كبرى فقد كانت المدارس العمومية تستقبل
الجميع وبفضلها تمكن بعض أبناء المحرومين من تغيير ظروف عوائلهم.
5.
وبينما شاخ الرق التقليدي وكبا ومضى في طريق الأفول قام الرق المعاصر،
السائد اليوم على الصعيد العالمي، واشتدت صولته وأصبحت السيادة تقاس
برصيد الإمكانات المادية واختفت الاعتبارات الأخرى فمن يملك المال يسخر
من لا يملكونه من وجهاء وفقهاء وبسطاء أيضا واشتد نفوذ الرق المعاصر
لدرجة هتك الاعتبارات التقليدية في موريتانيا حيث أدى لصعود بعض أبناء
الأرقاء السابقين منصة السيادة. حتى البنية التقليدية تأقلمت مع معيار
السيادة الجديد لدرجة أن بعض المجموعات اختارت لزعامتها بعض أبناء
الأرقاء السابقين.
6.
على الرغم من الظروف الصعبة التي عاشها بعض المواطنين الموريتانيين في
ضواحي المدن فقد كان توفير الدولة للتعليم ومساواة المواطنين فيه حسنة
كبرى مكنت أبناء الفقراء من أرقاء سابقين وغيرهم من النجاح وكثيرا ما
تفوقوا على أبناء الموسرين وبذلك توفر عامل توازن اجتماعي أتاح للأسر
التي تعلم أبناؤها أن تغير ظروفها الاقتصادية.
ولكن السنوات الأخيرة شهدت انتكاسة التعليم العمومي إثر شيوع "الرأسمالية
التعليمية" التي أصبح العلم بموجبها سلعة تباع وتشترى وغلا الثمن لدرجة
أن تحمله لم يعد متاحا إلا لمن يؤمنون دخلا فوق المتوسط فسداد حقوق ولوج
الأبناء للمدارس الحرة وتأمين الدروس الخصوصية لم يعد سهلا يسيرا بفعل
ارتفاع تعويضات المدرسين التي أصبحت تتراوح ما بين ألف أوقية للساعة
الواحدة بالنسبة للمبتدئين ويتصاعد المبلغ ليصل خمسة آلاف للساعة بالنسبة
لأساتذة المواد العلمية لأقسام الباكالوريا وفي تلك الظروف قامت مؤسسات
الامتياز فأضحت مدارس بورجوازية لأن الغالبية العظمى ممن يلجونها من
أبناء الموسرين إذ لا طاقة للفقراء والمحرومين بتأمين الظروف التي تكفل
نجاح أبنائهم في مسابقتها وفي سائر المسابقات الوطنية الكبرى. وقد حدثني
أحد أساتذة الامتياز بأنه يدرس قسما أغلب تلامذته من أبناء المدراء في
القطاعين العام والخاص.
7.
لا غرو أن ينتج عن جزر المدرسة العمومية مد في السجون فبموازاة تنازل
الدولة عن المدارس العمومية وتراجع أدائها كثر الجنوح بين أبناء الفقراء
وتزامن ذلك مع سياسة جنائية تقوم على التوسع في التجريم مما حتم توسعة
المحابس وتم تشييد سجون كبرى في ألاك وبير أم اكرين وانواذيبو ولعل أكثر
نزلاء السجون يافعون من أبناء الأرقاء السابقين الذين لم يستوعبهم
التعليم وبفعل تلك العوامل وغيرها سرعان ما اكتظت السجون القائمة وبدا من
الضروري العمل على توسعتها لتستوعب المزيد.
8.
إن تغير الظروف البشرية وتعاقب الشدة والرخاء، والضعف والقوة، والفقر
والغنى، والصحة والمرض وكون دوام الحال من المحال يؤدي لوجود دائم لبعض
المواطنين المحرومين الذين يتطلبون رعاية اجتماعية خاصة لتمكينهم من سد
الرمق والولوج للصحة والتعليم وهو ما يحتم بدلا من التركيز على نبش أحداث
الماضي وتقصي المسؤوليات، الاهتمام بالحاضر والتطلع للمستقبل لذلك يتعين
على الدولة أن تعيد النظر في سياساتها الحالية التي تؤدي لإعمار السجون
وتقليص المدارس.
لقد كانت موريتانيا مستعمرة فرنسية وإبان فترة الاستعمار، الحديثة نسبيا،
قتلت الدولة الفرنسية الكثير من الموريتانيين وسجنت البعض وصادرت
الممتلكات وسخرت الجميع لخدمتها ولكن بعد أن أصبحت موريتانيا دولة مستقلة
أضحت علاقتها مع الدولة الفرنسية متميزة ومثالا لعلاقات التعاون في إطار
المجتمع الدولي وفي ظل انحسار دور الدولة وقيام الحاضنة الاجتماعية
التقليدية بدور في توظيف وعلاج ومساعدة ومواساة أفرادها ألا يكون الحفاظ
على الود في إطار المجتمع الموريتاني أولى من عقاب المذنبين؟

10. أبريل 2018 - 6:19

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا