تروى حكاية قديمة، مركونة في إحدى زوايا تاريخنا المهملة والمهجورة، أن أحد أسلافنا، نحن الموريتانيون، دفع مائة رأس من الإبل ثمنا لكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، الذي يقال إن تأليفه استغرق من صاحبه زهاء خمسة عقود من الزمن،
أعرف أنه سيكون من الصعب جدا علينا، أن نصدق مثل هذه الحكايات الباذخة للغاية، في مثل أيامنا الشحيحة والبخيلة هذه، فكتاب الأغاني بأجزائه الرئيسية الثلاثة، يتشمس من الصباح حتى المساء على الشبكة العنكبوتية، وتكفي نقرة خفيفة على زر صغير لتحميله مجانا، ومع ذلك لا أحد يسأل عن أخباره أو يلقي له بالا، وليس ذلك الأصفهاني المسكين، هو وحده من يقتله الضجر هناك،
ترى، ما الذي حدث لنا وجعلنا نصل إلى هذه الحافات المحبطة؟
في دار السلام بغداد، لم يعد شارع المتنبي وكتبه التي تفوح منها رائحة الأزمنة الجميلة، يستهوي سكان الأعظمية والبياع والرصافة والزعفرانية والكاظمية والكرخ وغيرها من أحياء مدينة أبي جعفر المنصور، وندر المشاءون في ذلك الشارع العتيق ساعة الغروب،
حتى المتنبي، الذي كان يقول عنه أستاذي في الصف الثالث الإعدادي، سيدنا عمر، تغمده الله بواسع رحمته: "شاعرنا الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، يصارع الدهر فيصرعه بسيفه"، تغيرت ملامح وجهه هو الآخر وأصبحت بائسة للغاية، وديوانه الجميل بات يئن تحت غبار الإهمال والنسيان، بغداد الثقافة والفن كلها تئن وتغرق في وحل وبؤس سنيها العجاف الحزينة،
وفي جلق الشام دمشق، حيث الجراحات لا ضفاف لها، هجر أصحاب "بسطات" الكتب في حي البرامكة الصاخب وسط المدينة، حرفتهم القديمة، وتحولوا إلى باعة للأسلحة والمفخخات والشاي وسندويش الفلافل وشراب العرقسوس والأغراض الرخيصة المستعملة،
وفي قاهرة المعز، تتثاءب الكتب هناك على سور الأزبكية من شدة البطالة، دون أن تجد من يواسيها ويمسح دموعها، بعدما هجرها الناس، الذين طفقوا يلهثون وراء لقمة عيشهم، تطاردهم أهوال زمن رديء، حل بأرض الكنانة على حين غرة،
ترى، إلى أين يأخذنا زمن المواويل الموجعة والمفجعة هذا؟
حين سقطت قلاع المعسكر الشرقي الواحدة تلو الأخرى، كتب الفيلسوف والأكاديمي الأمريكي فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير، (نهاية التاريخ)، الذي أثار وقتها زوبعة كبيرة عبر العالم، أفلا يحق لنا نحن بدورنا أن نحكي بحرقة عن (نهاية الثقافة)، بعد سقوط كل هذه القلاع والحصون العتيدة!؟
..في الحادي والعشرين من مايو من عام 1981، رمت صناديق الاقتراع، الجمهورية الفرنسية الخامسة، بأول رئيس يساري لها، لا يوجد بلد في هذه الدنيا، ارتبطت فيه السياسة بالثقافة كما فرنسا، ولا يوجد رئيس فرنسي أخلص للثقافة لدرجة الجنون كما فعل فرانسوا ميتران، كل المعارك السياسية الكبرى التي خاضها الرجل في حياته الحافلة، كانت في جوهرها معارك في الفن والفكر والثقافة،
بدأ ميتران حياته يمينيا رزينا ومتعقلا، وحين دغدغت الأفكار اليسارية الثائرة والخارجة عن المألوف أحلامه وأعتنقها بصدق، ظل دائما كاثوليكيا ومحافظا وصاحب إحساس دافق ومرهف، لدرجة أنه في الأشهر الأخيرة من حياته، استعان بمسعفة نفسية هي "ماري دو هنزل"، لكي ترافقه نحو الممرات الأخيرة المؤدية إلى الموت،
خلال أربعة عشر عاما قضاها سيدا لقصر الإليزيه، أهدى الرجل فرنسا صروحا ثقافية شامخة، ما زالت تحدث عنه حتى يومنا هذا، من أروعها مكتبة فرنسا الضخمة وذلك الهرم المصمم من شرائح الزجاج، الذي يتوسط الساحة الكبرى في متحف اللوفر "كور نابليون"، والذي أصبح أحد أهم معالم باريس وفرنسا الثقافة، منذ نهاية الأشغال به سنة 1989،
وهذه التحفة الفنية بالذات لها قصة مؤثرة جدا، فقد أرادها ميتران تذكارا خالدا لسيدة جميلة تدعى آن بانجو، جمعته بها قصة حب استمرت ثلاثين عاما، حين التقيا لأول مرة، كان هو سياسيا محنكا في السادسة والأربعين، قد بدأ يفقد بعضا من شعر رأسه، أما هي فطالبة فنون وفلسفة في التاسعة عشرة، تقطر شبابا وأنوثة حتى نهايات أصابعها،
كتب ميتران لآن بانجو أكثر من 1200 رسالة، شكا لها فيها كل أوجاعه وحدثها فيها عن كل شيء في حياته، حتى تلك التفاصيل التافهة والمملة عن رفاقه الاشتراكيين، الذين وصفهم لها ذات مرة قائلا: "أنصاري الأغبياء والمتعصبين الذين لا يستخدمون سوى حجج منحطة"،
وحين رحل ميتران، أرادت آن بانجو أن تشارك العالم كله، فحوى رسائل الرجل الذي أذهلها طوال حياتها، فقامت بنشر تلك الرسائل في كتاب أنيق صدر عن دار غاليمار الفرنسية العريقة، وفي اليوم التالي، وقفت باريس وفرنسا كلها في طوابير طويلة، للحصول على نسخة من رسائل "الرئيس العاشق"،
حكايات المثقفين وشطحاتهم ممتعة وعذبة للغاية ولا تمل، والثقافة كانت دائما وستظل أروع سفارة للشعوب والأمم ،
..مؤخرا رويت لأحدهم قصتي مع برنامج "عصير الكتب"، الذي يقدمه الكاتب والصحفي المصري الجميل بلال فضل، وكيف عثرت عليه بالصدفة ذات مساء على قناة "دريم" المصرية، ثم كيف أضعته مدة قصيرة قبل أن أعلم أن البرنامج وصاحبه هاجرا إلى تلفزيون العربي وألحق بهما هناك، وشرحت لصاحبي كيف أني منذ اجتمع شملي بذلك البرنامج، عدت أستمتع كل أسبوع بحكايات وأحاديث بلال فضل، المحزنة والجميلة والمدهشة في الآن معا،
ما كدت أنهي قصتي الصغيرة تلك، حتى قال لي صاحبي مستغربا: "عصير الكتب!"، لا شك أن طعمه سيكون فظيعا للغاية،
أردت أن أشرح له الأمر أكثر، لكنه لم يمنحني فرصة لذلك، بل واصل كلامه قائلا: "الزمن تغير يا رجل، أنت بحاجة أكثر إلى عصير برتقال، عصير ليمون، عصير فراولة أو على الأقل يا أخي...عصير كركديه!"
..يا خسارة...