القصة: كان الفارس الإغريقي "آشيل" متمردا على ملوك أثِنا، وكان له خيله ورجله الذين لا يقبلون الأوامر من غيره، وبالرغم من ان الحالة بينه وبين الملك آنذاك وصلت الى مرحلة القطيعة، الا انه قتل في حرب طروادة دفاعا عن مملكة الاغريق، حيث ان الولاء للقبيلة لدى "آشيل" كان أعمق من خلافاته مع الملك ومن أي اعتبارات اخرى.
المقال: لا شك ان التكوين الاجتماعي لموريتانيا كمجتمع قبلي شرب من مُدامة القبلية حتى الثمالة، جعلت منه مجتمعا عصيا على الإذعان لغير الولاءات القبيلة حتى ولو صادمت تلك القوانين إطارات أوسع منها كالدولة والأيديولوجية مثلا، بل ان الولاءات الروحية تفقد عِصيّها بسهولة امام صوارم القبلية في مجتمع يحسب أكثر من متدين.
ولا شك ان الولاء لأي إطار غير الدولة يشكل خطرا دائما على كينونتها وتماسكها ويجعلها عرضة للتفتيت في أي وقت كما يفتح القنوات امام كل من يترصد لها من خارجها كي يحقق أهدافه وطموحاته بسهولة حتى ولوكان ذلك الإطار قبليا.
صحيح ان القبيلة رغم خطورتها على الدولة المعاصرة، هي الإطار الأكثر مثالية لأفرادها والاقرب منهم في حالاتهم الطارئة وحوائجهم الخاصة، والأكثر وقوفا معهم في مشاكلهم وأقصرهم روتينا دون حل تلك المشاكل، فالدولة حتى وان اعتنت بأحد افرادها ستضع ملفه ضمن آلاف الملفات الأخرى نظرا لاتساع اطارها وإهمال مسئوليها، وبهذا يكون الولاء القبلي مسوغا على الأقل لهؤلئك الذين لا يهتمون للمفهوم الحقيقي للدولة.
لكن من يمعن النظر الى ما وصل اليه الحال في هذه الفترة يدرك ان دور القبيلة أصبح محدودا بالمقارنة مع دور الحزب، فالقبيلة بعددها وعديدها أصبحت مسخرة لخدمة الحزب، بغض النظر عن مدى استفادة افرادها من ذلك، كما اننا نجد الغرماء التقليدين في القبيلة وقد جلسوا على نفس الطاولة أحيانا وذلك حينما يتعلق الامر بمصلحة الحزب، وصحيح انه في احايين أخرى وخلال المواسم الانتخابية تشهد القبيلة مهاترات ومناوشات من قبل الزعامات التقليدية ، لكن السبب خلف تلك المهاترات هو الصراع على الدور الأبرز في القبيلة أمام عيون الحزب لنيل ثقتهم وبالتالي فان الحزب هنا هو الغاية اما القبيلة فانتقلت الى مرحلة الوسيلة.
ان المراقب للتحالفات القبلية في مختلف مناطق موريتانيا بدءا من تلك التقليدية كحلف "الحمويين" في أقصى الشرق وحلف الشيخ محمد الأمين في تمبدغة ومرورا بحلف كاب ولد اعليوه في العصابة وانتهاء بحلف بيجل هميد في كرمسين في اقصى الغرب، وحتى التحالفات الجديدة كحلف يحيى ولد حدمين في الحوضين وحلف المختار ولد اجاي في البراكنة وحلف القاسم ولد بلالي في الشمال الغربي، سيجد هذا المراقب ان كل تلك التحالفات القبلية تعتمد في تمويل انشطها على المجهود الذاتي للقبيلة ورجال اعمالها، او من السياسيين انفسهم، وان استفادة القبائل المكونة لها من الحزب تظل محدودة جدا -ان وجدت أصلا- ومحصورة في القادة، بالمقارنة مع ما يصرف من أموال القبائل في خدمة الحزب، وبالتالي فان القبيلة هنا مجموعات افراد تشكل اطارا صغيرا تم تسخيره لخدمة الاطار الكبير الذي هو عبارة عن الحزب، مع العلم بأن امتيازات القبيلة مفتوحة على كل افرادها، بعكس الامتيازات الحزبية التي تبقى محصورة على الزعامات، مما يعني ان الانتماء الحزبي ليس الا "رأسمالة" للانتماء لقبلي.
كما ان المعارضة الداخلية للزعامات القبلية أو السياسية أو حتى الروحية لتلك التحالفات يكون خلفها في الاغلب صراع على مكانة امام نفس الحزب او أمام حزب ءاخر، وبالتالي فإن سطوة الحزب تبقى قائمة ودور القبيلة يبقى متقهقرا ومحتفظا بمكان الوسيلة لا لغاية.
وإذا كان الحال هكذا فنحن إذا امام مرحلة جديدة هي الانتقال من مرحلة القبيلة الى مرحلة الحزب...؟
صحيح ان القراءة هنا تظل ناقصة الحروف والرموز، نظرا لاختصارها على حالة حزبية واحدة هي الأحزاب الحاكمة، لكن الواقع في بلادنا يوضح ان الأحزاب الحاكمة، او التي يمكن ان يستشرف لها المنظرون مستقبلا فاعلا، تبقى هي الأحزاب التي يراهن عليها الكثير من "الواقعيين" إذ لا توجد فرصة امام غيرها، حتى وان كان في ذلك ظلم وتجني على أحزاب عريقة ذات تاريخ نضالي مشرف، يعترف به الغريب قبل القريب.
لكن السؤال المطروح هنا وبغض النظر مدى دقة القراءة، هل الخروج من إطار القبلية الى إطار الحزب يحسب لصالح الديمقراطية والعاملين على ترسيخها؟ وبالتالي يشكل خطوة صحيحة في طريق الخروج من حظيرة القبلية الرجعية نحو الانفتاح الحزبي الحداثي؟ وهي حالة صحية تنبئ عن ترسُّخ مفهوم الدولة الحديثة لدى الفرد والجماعة، لكن غياب البرامج الواضحة ذات الثوابت والمتغيرات والرؤية الاستشرافية من قبل هذه الأحزاب أو عدم اطلاع معظم الافراد عليها -ان وجدت -ينفي صحة الفرضية ويجعلنا امام حالة حزبية جديدة، تم إطلاق اسم الحزب عليها تجوزا فقط، وهي في الحقيقة ليست الا تطورا داروينيا للقبيلة، وهنا نتساءل هل ستبقى القبيلة في ثوبها الجديد – الحزب –محافظة على دورها التقليدي نحو الأفراد؟ والاجابة ان ذلك لن يتحقق نظرا لاتساع دائرة الحزب وتقييمه للفرد، وبالتالي فان غياب القبيلة التقليدية سيترك فراغا لدى الفرد وتهديدا لمصالحه، ليتم التخلص من القبيلة الحديثة –الحزب -في اول فرصة وذلك حينما يصل الفرد الى مرحلة اليأس من الأحزاب، وهنا يتم العمل على إيجاد البديل والذي سيشكل غالبا حالة قطيعة مع الماضي الذي انصهرت فيه القبيلة بالحزب، ليبقى الخيار مفتوح فقط على الأحزاب ذات البرامج والخلفيات الفكرية.
إن حتمية سقوط قبيلة الحزب وحزب القبيلة وأحزاب الدولة أمر مفروغ منه طال الأمد او قصر، إذا ان المصالح والولاء للأشخاص هم الدافع خلف الانتماء اليها، اما الأحزاب التي يمكن ان يراهن عليها-على المدى البعيد وليس القريب -فهي تلك الأحزاب السياسية ذات البرامج والخلفيات الفكرية –الثابتة-والتي ليست مرتبطة بأشخاص ولا بقبائل ولا بجهة معينة.
للعبرة: حينما نصح المستشارون المغوليون قائدهم "جنكيز خان" بمحاربة الخلافة العباسية أجابهم: لو كانوا قبيلة لأبدتهم دون أي تردد، لكن العباسيون مسلمون والإسلام فكرة والقضاء على الفكرة لا يمكن يتحقق بالسيف.