لا تكمن المشكلة الأكبر التي تواجه المجتمع الموريتاني في مسألة واقعيةِ مشكلة العبودية إذا ما تحدثنا بشكل موضوعي عن الشريحة الحاكمة من المجتمع بقدر ما هي انعكاس لمجموعة من العوامل المختلفة منها ما هو تاريخي ومنها ما عضوي مرتبط بتركيبة المجتمع المتجذرة رغم اختفاء الممارسة فعلا ، ومنها ما هو واقعي مرتبط بسيطرة فئة معينة دون أخرى واحتكارها النفوذ بعلاماته المختلفة واحتلال أخرى بكليتها الهامش والقواعد السفلى
إضافة إلى استمرار التموقع في الهرم الاجتماعي وما تتربت عليه من نظرة تساهم بشكل فعلي في غموض الواقع وإلتباسه ، مما تنتج عنه مشكلة "التوصيف" الموضوعي من أجل الحل إذا كان أمرا مطلوبا بالفعل ، والتوصيف هنا سهل إذا ما نظرنا بعين الناقد الفاحص الذي يسعى إلى اختبار كافة المتغيرات المساهمة في اللبس من أجل إخراج المتغير الرئيس الحقيقي الذي يمكن من خلاله توصيف الأمر .
فإذا نفينا مبدئيا على غرار ما تدعي الدولة مسألة واقعية العبودية في المجتمع الموريتاني أو في شريحة "البيظان" بالتحديد فإننا نحتاج إلى تفسير ما يحدثُ أو ما هو واقعي من خلاله يكثرُ الكلام عن العبودية أو وصفه ، فهل تعني العبودية الفقر أم التهميش؟ أم الإقصاء؟ أم النظرة الدونية التي تحرمُ أناسا بعينهم من احتلال مناصب معينة؟ أم أن القضية لا تعني أكثر من رغبة ملحة في الحصول على رساميل اجتماعية من نوع ما (رمزية – أو مادية) من أجل الحصول على نوع من التوازن داخل المنظومة الاجتماعية الكلية للمجتمع ؟ .
ولو افترضنا مبدئيا أن الأمر قد يكون مرتبط بكل تلك التساؤلات دون واقعية مشكل العبودية فعلا في المجتمع الموريتاني ، فإننا نكون أمام تساؤل آخر هو العوامل المؤدية إلى هذا اللبس الذي من خلاله تستمر هذه التوصيفات الواهية؟.
طبعا من يهتم بالجانب الاجتماعي في مجتمع معقد البناء مثل المجتمع الموريتاني لا بد من أن يتكون لديه حسٌ بخطورة الخطابات مهما كان هدفها ونوعها التي تغذي دون بصيرة أية نزعة تنجذب إلى أي توصيف واهي عن أي موضوع لا سيما موضوع خطير كهذا له خلفية تاريخية لا زلنا جميعا عاجزينا نتيجة لاعتبارات طبيعية أو اجتماعية عن تسويتها مثل الخطاب "السياسي أو الأيديولوجي" خصوصا إذا ما اعتبر هذه القضايا مجرد وسيلة يمكن تحريكها لأجل غايات بعينها..
إن مسألة التهميش في المجتمع التي يغذيها بقوة الحس التاريخي بنزعة الاستعباد هي الأصل في إثارة كل تلك القضايا ذات النزعة الخطيرة والمشكلة الأكبر أن تكون تلك النزعة مستهلكة من قبل أشخاص سياسيين لهم أهداف بعينها يريدون ركوب موجة ما تحمل هذه القضايا من غليان من أجل الحصول على صدارة لشريحة يتشكل وعيها الثقافي في حس ما في تاريخها من ظلم واضطهاد وما في حاضرها من تهميش واقصاء وجهل يساهم بقوة في استمرار هذا الواقع المزري ، فتكون النتيجة تطلع البياض الأسود من هذه الشريحة إلى خطابات استهلاكية تغذي فيهم نزعة من نوع ما ولو كانت أسس تلك الخطابات واهية لا تستمد لحقيقة واقعية موضوعية .
طبعا كانت هناك عوامل عدة أكثرها خارجي لظهور الرق في المجتمع الموريتاني مع بداية ظهور التجارة الأطلسية وقد كانت تلك المسألة مكملة لبناء اجتماعي مغلق داخل حيز قبلي هو المحدد الأول للانتماء داخل المنظومة الهوياتية للمجتمع الصحراوي الأكبر ، وطبعا كانت هناك عوامل داخلية قبل نشوء الدولة تبرر كلها تلك الممارسة بغض النظر عن جرمها لكونها ممارسة من قبل مجتمعات بدوية استهلاكية أكثر رغم شح مصادر المعيشة ونتيجة لضغوط مادية خارجية ونتيجة كذلك إلى رغبة محلية في التغلب وإدارة السلطة بين الفئات والشرائح الحاكمة على حساب المحكومة داخل منظومة اجتماعية مركبة في أضيق أجزائها وأكبرها كذلك .
لكن كانت هناك مساع خجولة في بداية الأمر مع الإدارة الاستعمارية تمثلت في تحريم الاتجار الخارجي بالرقيق لكن دوافع السيطرة جعلت المستعمر يبقي الوضع الاجتماعي على ما هو عليه دون سعي جدي في التغيير ، وعززت الدولة تلك المساعي الخجولة بتشريعات قانونية اعتقد أنها مهمة من أجل القضاء قانونيا على هذه الظاهرة رغم اختلاف فترات تلك التشريعات تاريخيا بالنسبة للواقع الاجتماعي في موريتاني ، فأين المشكل إذن؟
طبعا لقد ساهمت تلك التشريعات القانونية في اختفاء ممارسة "الرق" اجتماعيا في المجتمع الموريتاني أو الشريحة الحاكمة المستهدفة دون أي مزايدات وأصبحت المشكلة تتموقع داخل إطار اجتماعي آخر مختلف هو الإطار الشرائحي ، أي أن العبد في الزمن القديم كان من قبيلته تدافع عنه ، اليوم ذلك الحس لا يزال قائما ويظهر في حالات نادرة ، لكن علاقة العبد السابق باتت أكثر قوة في الأتباع الذين سبق وأن مورست عليهم نفس الظاهرة وتحول مسائل فيسيولوجية عن عدم تمييزهم وادماجهم في المجتمع الكلي كما حدث مع فئات أخرى تابعة "أزناكة أواللحمة" مثلا التي أصبحت تبني تاريخا لها معينا على غرار الفئات الحاكمة متنكرة لكل غلبة سابقة ، وأصبح مسائل الزواج وأنواع أخرى من تكافل تتم بينه معها شريحيا دون الرجوع إلى قبيلته التي قد تكون القطيعة معها قويت أكثر.
فالعلاقات تتم إدارتها بشكل آلي داخل كل شريحة باستثناء حالات يتم الرجوع فيها آليا كذلك إلى الاعتبارات القبلية بشكل عفوي ، لكن الجانب الشاسع الذي من خلاله تنظر الشريحة السفلى للمجتمع النافذ تغذيه عوامل نفسية أكثر تستحضر دائما تلك الممارسة الماضية من أجل الحصول على مكاسب بعينها علما بأن الصراع الاجتماعي الذي تنخرط فيه الشريحة مقابل القبيلة مقابل تكتلات أخرى تتلون حسب نفس الغاية بطرق مختلفة يكون فقط من أجل الحصول على مغانم أكثر من الدولة .
وليس هناك حل لهذه المشكلة الآلية والمركبة والمعقدة غير تغذية الجانب التربوي للمجتمع والعمل على تصحيح المفاهيم الملتبسة فيه من أجل ضمان الانسجام وإحداث التوازن المطلوب داخل المجتمع .