بين مسيرة الاثنين ومهرجان الثلاثاء مثل مابين الأرض والسماء، مابين الرحيل والبقاء، ما بين الخوف والرجاء، ما بين الهدم والبناء. من أحياء الترحيل في نواذيبو أسقط الشعب الموريتاني خطاب الرحيل، واختار الصدق على التدجيل، والحقيقة على التمثيل.
حقائق مهمة أكدها رئيس الجمهورية في حديث الثلاثاء؛
أولها أن لا تراجع عن المكاسب الديمقراطية والحريات العامة، مهما حاول المخالفون من أساليب الابتزاز والاستفزاز، واستغلوا المنابر التي تتيحها لهم دولة المؤسسات في التطاول على كل شيء، والقفز على مسلمات الديمقراطية وآداب الحرية.
ثانيها أن لا عدول عن محاربة الفساد التي نقلت ميزانية الدولة من العجز إلى التوازن، وحررت موارد البلد من بطش الفاسدين، حتى لو علت أصوات المترفين بالبكاء على أطلال وطن دمروه، وأنشدوا قصيدة الأرض الخراب، وذرفوا دموع التماسيح على ماضيهم الكسيح.
ثالثها أن خيار الانحياز للمهمشين ماض لا رجعة فيه، تشهد على ذلك برامج تخطيط الأحياء العشوائية، ومد مناطق آداوبه بالطرق وشبكات الإنارة والمياه، والمعالجة الحقيقية لقضايا الإرث الإنساني، والعناية بالنساء والشباب.
بعد أشهر من الحملات الإعلامية المسعورة، وجولات استجداء التعاطف الشعبي ضد الحوار والاستقرار، جاء رد رئيس الجمهورية مزلزلا، ليكشف أن من يحملون راية المظالم اليوم هم من درجوا على ظلم هذا الوطن طيلة العقود الماضية، هؤلاء الذين استأثروا بالصفقات، وملكوا الأراضي الشاسعة وحرموا الفقراء من قطعة صغيرة يبنون عليها أكواخهم، هؤلاء الذين أثروا من المال العام، وكانوا يرعون قطعانهم بسيارات الدولة، ويشربون من مياه ويستضيئون بأنوار لم يدفعوا عنها أي مقابل، بينما يرزح المساكين تحت الظلام والجوع والعطش، هؤلاء الذين لم يدفعوا للوطن ضريبة، وهم سبب ما نحن فيه اليوم من كل مصيبة.
لا بأس إذا كانوا اليوم يبكون، فقد حيل بينهم وبين ما يشتهون.
كان واضحا أن دعاة الرحيل يجهلون عناصر القوة الحقيقية للنظام الذين ينوون منازلته؛
أمامهم رئيس قوي يتمتع بالشجاعة والصرامة، لديه خبرة واسعة في التعامل مع مختلف أطياف الطبقة السياسية، ويقدم مصالح الأمة على إغراءات السلطة، كما دلت على ذلك تنازلاته في حوار داكار والحوار الأخير مع أحزاب المعارضة الجادة، ويده الممدودة لكل الراغبين في الالتحاق بالمسيرة.
و يتمتع هذا الرئيس بشرعية كبيرة وقعتها شهادة المعارضة، وتسانده أغلبية مريحة في البرلمان، ويؤازره زخم شعبي حقيقي عبرت عنه حشود الثلاثاء الكبير في مدينة نواذيبو.
ويستند مشروع الرئيس على موارد مالية معتبرة، تمكنه من تنفيذ برامج طموحة، كما تبين ذلك الإنجازات المتتالية بسرعة لم تعرف لها البلاد نظيرا، وما التدشينات الأخيرة في مدينة نواذيبو منا ببعيد.
ويحمي استقرار النظام جيش جمهوري وجهاز أمني مدرب، يتوفر على الوسائل الضرورية، وتقوده نخبة من الضباط الشبان، الذين أقسموا على قطع كل يد تريد أن تمتد لتسرق السكينة والأمان من هذا الشعب المسلم المسالم.
لقد انكشفت أوهام القوة والنصر لمعارضة قدمت للصفوف الأمامية جند العجائز والمترفين، وراهنت على فرس خاسر.
سقط خطاب الرحيل لأنه يبيع الشعب معلوما بمجهول ويخلط الجيد بالرديء، ويقوم على تمثيل سيناريوهات أجنبية على الواقع الموريتاني، ويكرر أفلاما مدبلجة بلغة غريبة.
تأخذ المعارضة في كل بلد شرعيتها من الديمقراطية، ولكنها اليوم في بلادنا تريد القفز على مسلمات الديمقراطية، وتسعى المعارضة في كل مكان للحشد للانتخابات، ولكن معارضتنا المقاطعة تتجنب امتحان التصويت، وتزعم بعض أحزاب معارضتنا أنها تسعى للحوار، بينما تعمل جاهدة لوضع العراقيل أمام كل حوار، وتدّعي المعارضة أنها تريد المشاركة في وسائل الإعلام العمومية، ولكنها لا تقبل الظهور عبر تلك الوسائل إلا بعد تلكؤ وتفاوض ومماحكة، وتحاول المعارضة اليوم استنساخ الثورات العربية، متجاهلة أنه لم يحدث في أي من بلدان الربيع العربي أن ثار شعب بطلب من المعارضة، لأن الثورة حدث عفوي لا تفتعله الأحزاب.
قل للذين قاطعوا الحوار واختاروا اللعب بالنار، ستغلبون وتحشرون إلى صندوق الاقتراع، ليس بينكم وبين الشعب ترجمان ولا حاجب.
لا يملك أحد حق القفز على خيارات الشعب الموريتاني، ولن يكون بمقدور الأقلية أن تفرض طموحاتها على الأغلبية، ولن يستطيع المغامرون إعادة هذا البلد إلى الوراء، ولا يحق لأحد التلاعب باستقرار الوطن سلامته، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.