قبل عشر سنوات من اندلاع الثورة السورية المباركة، كانت دمشق تشهد وراثة الشبل بشار ثلاثين عاما من الحكم الشمولي لأبيه "الأسد" في سدة الحكم، ومع جلوسه على الكرسي الأثير، رفع الشبل شعار التجديد والإصلاح.
وبعد قرابة عشر سنوات من ذاك التاريخ، كان عسكري ميكانيكي يغتصب السلطة بنواكشوط، فارضا نفسه وريثا لثلاثين عاما عجافا من حكم العسكر في موريتانيا، واعدا "بتقسيم المتوفر من العدالة بالتساوي بين الجميع". بين اللحظتين (دمشق في يوليو 2000 وأغسطس 2008 بنواكشوط) ما بينهما زمانا ومكانا، لكنهما أنتجتا نظامين لا تخطئ عين الملاحظ أوجه الشبه الكبير بينهما. مع مجيء كل منهما طلب مهلة زمنية لتنفيذ وعوده، على زعم أنه جديد، لكن الأفعال كانت تسير في اتجاه آخر، فالأول ظهرت خفايا جرائم شبيحته فأعادت إلى الأذهان فظائع حماة التي ارتكب سلفه، والثاني بدأ في استعادة مسار أستاذه، سخرية من الدين، بيانات الدعم والمساندة، وإذكاء النعرات القبلية والجهوية والعرقية... وفي الصورة تبرز الأزمة المجتمعية لكل من الشعبين، نظام غارق حتى ودجيه في وحل الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وشعب يصارع أهوالا متلاطمة تكفي إحداها منفردة لإغراق أمة بأكملها، تعليم فاسد وصحة مدمرة وثروات منهوبة وحرية مسلوبة وسلطة استبد بها فرد لا يدخر جهدا لإركاع جموع الشعب وتذليلها.
الدستور أولا في كلا المشهدين يبرز الدستور في بداية الطريق، إذ كان تعديله السريع ليتلاءم مع مقاسات الدكتاتور الصغير هو الطريق الذي دخل منه بشار القصر الجمهوري بدمشق، وفي موريتانيا كان السعي لتغيير الدستور والحد من صلاحيات رئيس الجمهورية القنطرة التي ركّب الميكانيكي على الجسر المؤدي إلى القصر الرمادي بنواكشوط، ليقوم بإزاحتها من المشهد بمجرد بلوغه الهدف. في سوريا اليوم حديث معاد عن الإصلاح الدستوري وتوزيع السلطات واستقلال بعضها عن بعض، ومسرحية انتخابية وبحث عن محاورين يقبلون ما يقدمه النظام من "صدقات"، وفي موريتانيا تجديد لما كان خفت من أمر الدستور وإصلاحه والبرلمان ودوره، وهناك أيضا حوار بمقاييس النظام وجري حثيث لإخراج مسرحية انتخابية تلهي الشعب.
المسوح الخادعة لكل من الرجلين أغطيته التي يلتف بها وأغانيه التي يصيح محاولا الشدو بها، فالرئيس السوري اتخذ من الدعم المزعوم للمقاومة ماكياجا يخفي وراءه جرائمه البوليسية النتنة بحق السوريين الأحرار، في حين جعل الجنرال عزيز من محاربة الفساد قناعا يتخفى وراءه حتى لا يفتضح نهبه الممنهج والسريع لثروات الشعب الموريتاني الأبي. هو التاريخ من يقول إن بشار الأسد لم يطلق رصاصة واحدة على المحتل الصهيوني في الجولان ولم يوجه جيشه إلى الحدود مع فلسطين المحتلة ولم يوفر الحماية لقادة ورموز المقاومة – خصوصا العسكريين منهم – كما يسوّق (اغتيال عماد مغنية ومحمود المبحوح مثلا) والتاريخ أيضا يشهد أن محمد ولد عبد العزيز لم يعد للشعب أمواله التي نهبت، ولم يحافظ له على ثرواته، بل رماها بأبخس الأثمان لشركات العابرة للقارات ولأفراد مرتبطين به ومقربين منه (اتفاقية الصيد وساحة ابولكات مثلا) في صفقات مشبوهة لفتها كل أشكال عدم الشفافية وتوفرت بها جميع معالم الفساد. فبقدرة قادر وبين عشية وضحاها، وحين مطالبة السوريين بالإصلاح انزاحت الشعارات والخطابات والمؤتمرات وكل الحديث عن دعم المقاومة لدى نظام بشار الأسد المتهالك لتفسح المجال لطائفية مقيتة هي الوجه الحقيقي لنظام تحالف النصيرية والبعث. وفي موريتانيا لم يكن الحديث المتكرر من طرف الجنرال عزيز عن محاربة الفساد والمفسدين إلا مخططا خبيثا يسعى من ورائه لتصفية حسابات مع أطراف قبلية وجهوية وسياسية لا تعجب الجنرال أو لا تدعمه.
قصر النظر تحيط بكل من الرئيسين جوقة مصفقين، تهتف في دمشق "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، وتصيح في نواذيبو "يعيش الرئيس محمد ولد عبد العزيز،" فتختزل كل البلدين في شخصين، فلا يرى هذان "الزعيمان" في معارضتهما إلا خيانة للوطن، ولا يبصران في قادتها إلا ساعين إلى مشاركتهما نهب المال العام، وحسبهما هذا، فقد قال المتنبي: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهم يحسب الجنرال عزيز فإن قمة الديمقراطية تتمثل بمجرد خروج متظاهرين للشارع أو دخول بعض أصحاب المظالم الاجتماعية أو المطالب العمالية في اعتصامات أو إضرابات، إذ أن كل الدور المنوط بهؤلاء يتمثل في الصياح والصياح فقط، أما الاستماع إليهم أو الحوار معهم أحرى الاستجابة لمطالبهم فتلك منقصة من هيبة السلطة لا تجوز في عرف الجنرال. في حين يرى الشبل بشار أن القتل والدمار الذي يقابل به المظاهرات المطالبة بإسقاطه هو "الديمقراطية في أبهى صورها" فيدعو المعارضة إلى المشاركة في هذه العملية الديمقراطية!. وبناء عليه، فإن الحكومة – في كلا البلدين – وبتوجيهات نيرة من فخامة الرئيس، تحرص على تنفيذ كل ما من شأنه أن يساعد الشعب في الثبات على هذا المستوى من ممارسة "الديمقراطية" ومن هنا ندرك الحكمة البالغة وراء استمرار النظامين الحاكمين في كل من دمشق ونواكشوط في الفساد ونهب المال العام واستنزاف ثروات البلاد ومقدراتها.
ثم ماذا؟ بعد عشرة أعوام من وعود الإصلاح المزيفة ومن قبلها ثلاثون عاما من القهر والظلم والاستبداد بمختلف أشكاله، وبعد انتظار طويل ومرير لمخلص لم يأت، أدرك الشعب السوري أن لا أحد سينهي أوجاعه وأن عليه أن يداوي آلامه بنفسه، فنفض عنه غبار الذل وكسر حاجز الخوف وتقدم بكل ثبات لاستعادة ما سلب منه على مر العقود الأربع الأخيرة من تاريخه الحديث. خرج السوريون مطالبين بالحرية والكرامة ولقمة العيش التي جعل الله لهم بأرضهم المباركة، خرجوا ليقولو للظالم يا ظالم، وليستردوا سيادتهم على أنفسهم وعلى من سيحكمهم، وهي – والله – مطالب نبيلة واجبة التحقق مطلوب السعي من أجلها، مطالب نحن في أمس الحاجة إلى أن نوجدها على أرضنا ونعيشها بين جموع شعبنا ونلمسها واقعا في بلدنا، فهل سننتظر عشر سنوات لندفع نفس الفاتورة ونكون – بالتالي – من الذين لا يستفيدون من أخطاء الآخرين، حتى يصبحون هم الآخرون؟.