لا يمكن الحديث عن المواطنة الحقيقيّة والوحدة الوطنيّة الصّحيحة، دون الحديث عن المشاركة السّياسيّة الفعّالة و وجود المشاركة الفعليّة في صنع واتخاذ القرار في الدّولة لكافّة شرائح وفئات المجتمع المختلفة. إذا كانت المشاركة السّياسيّة هي قلب الديموقراطيّة وأسلوب و وسيلة في تشريع الحكم الجماعي من خلال دمج الكثيرين في شئون الدّولة، وتساهم في استقرار النّظام وتعطي كلّ فرد الحقّ في التعبير عن آرائه وقناعاته،
والأنشطة التّطوّعيّة التي يشارك فيها أفراد المجتمع؛ مثل اختيار القادة وقيامهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة بتشكيل السّياسة العامّة، وتشتمل تلك الأنشطة بصورة أساسيّة على التصويت والبحث عن المعلومات، المناقشة، الكتابة، حضور الاجتماعات والمساهمة المادّيّة والمعنويّة والاتصال بالنوّاب إلى آخر ذلك من النّشاطات التي تندرج في هذا الإطار، إلاّ أنّ الصّورة الأكثر فاعليّة للمشاركة السّياسيّة، هي الانضمام إلى حزب ما بصفة رسميّة، والتسجيل في الانتخابات والاقتراع، والمنافسة على وظيفة حزبيّة، أو السّعي إلى تقلّد وظيفة سياسيّة، وهي جزء لا ينفصل عن المفهومات الدّيموقراطيّة الأخرى كالتّجمّع والمساواة، وسيادة الشّعب، ومناقشة القوانين أو تعديلها وغير ذلك، إضافة إلى أنّ المشاركة السّياسيّة تُعدّ المقياس لنموّ الحكومات الديموقراطيّة. لكن إذا لم تؤدّ هذه المشاركة السّياسيّة إلى تحقيق المواطنة الصّحيحة التي تعني من ضمن ما تعنيه؛ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين باختلاف مشاربهم الفكريّة، و أوضاعهم الاجتماعيّة، وأصولهم العرقيّة، وانتماءاتهم الثّقافيّة، وعقائدهم الدينيّة، وخصوصيّاتهم الجنسيّة أو النّوعيّة، أو لم تؤدّ إلى مساواة الفرص لدى جميع المواطنين للوصول إلى مراكز اتخاذ وصنع القرار، وتقلّد مناصب القياديّة في الدّولة، تكون تلك المشاركة ناقصة وغير ذات قيمة ديموقراطيّة حقيقيّة المنشودة في المشاركة السّياسيّة، إذ المواطنة تقتضي إمكانية وصول كلّ المواطنين إلى جميع وظائف الدّولة كلّ حسب تخصّصه وكفاءته، دون النّظر إلى لونه أو أصله، أمّا أن يتمّ تصنيف الشّعب من متبوع وتابع، فذلك لا يساعد في زرع روح المواطنة الحقيقيّة في وجدان أفراد المجتمع، ولا يحقّق الوحدة الوطنيّة الصّحيحة المنشودة. المواطن بصفته عضوا في المجتمع، وفردا من أفراد الشّعب يتطلّع إلى المشاركة الفعليّة في بناء وطنه من خلال تحمّل المسئوليّات فيه عبر تقلّد المناصب في شتّى المجالات، و في كلّ المستويات من القاع إلى القمّة.
كي نحقّق المواطنة الحقيقيّة والوحدة الوطنيّة الصّحيحة المنشودة في موريتانيا، فلا بدّ أن يكون كلّ المناصب والوظائف في الدّولة متاحة أمام الجميع، وبفرص متساوية في كافّة المؤسّسات سواء العسكريّة منها والأمنيّة، أم القضائيّة والتشريعيّة والإداريّة والتعليميّة وغيرها دون تحصيص أو كوتا، يكون المعيار الوحيد في الوصول إلى منصب ما هو الكفاءة ليس إلاّ. أمّا أن تخصّص مستويات معيّنة في المؤسّسات لفئة من الشّعب دون غيرها؛ فإنّ ذلك لا يساعد في تحقيق المواطنة الحقيقيّة والوحدة الوطنيّة الصّحيحة، ولا يساعد على الاستقرار السّياسي الذي هو أساس كلّ شيء، سيولّد الشّعور بالغبن والإقصاء والتّهميش لدى الفئات المحرومة، و يؤدّي بهم إلى كراهية الآخر. كما أنّه قد يولّد الشّعور بالأفضليّة لدى الفئات المتمسّكة بزمام الأمور و المتربّعة على الوظائف والمناصب العليا في الدّولة على الفئات الأخرى (المحرومة)، وهو ما بدأ يظهر شيئا فشيئا في المجتمع الموريتاني بشكل واضح حيث أصبحت نظرة الرّيبة بين الشّرائح هي السّمة السّائدة، كلّ يتوجّس الخيفة من الآخر دون سبب منطقي ودون مبرّر، نتيجة لغياب العدالة الاجتماعيّة، ونتيجة لسياسات الدّولة المتّبعة وغير السّليمة التي توسّع الفجوة بين المواطنين من مختلف الفئات في شتّى المجالات، السّياسيّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة و التعليميّة وغيرها. أيّ إصلاحات سياسيّة أو حوارات وطنيّة،إذا لم تتناول هذه المسألة ولم تضعها في الاعتبار، تكون استهلاكية للوقت والطّاقة وغير ذات جدوى...