يستمر المشهد الموريتاني في مواصلة حالة متأزمة من التعقد والتعقيد بعد تعثر الخطوات الأولى نحو الحوار السياسي المرتقب بين الأقطاب السياسية ، في ظل انتخابات جهوية و بلدية وبرلمانية ورئاسية تلوح في أفق سماء موريتانيا وسط جدل بين وجود تيارين بالمعارضة من يرى ضرورة المشاركة كفرصة سانحة للقوى السياسية بمختلف أطيافها ، وآخرون مصرون على وجوب مقاطعة مستمرة للنظام العزيزي ،
وإن كان هو المستفيد الأوحد من تلك المقاطعة في ظل منظومة دولية ترحب بنظام فاقد للشرعية الداخلية نظرا لحجم التنازلات التي يمكن أن يقدمها دون اعتبار لأي مساءلة شعبية بأي شكل من الأشكال.
لكن من المعايير المهمة في مناقشة المشاركة في انتخابات 2018 و 2019 ، معيار الرهانات على تحقيق عدد من الأهداف السياسية ، فلا بد أن تجيب المعارضة على سؤال : ما طبيعة الأهداف التي تراهن القوى السياسية المعارضة على تحقيقها من خلال المشاركة في الانتخابات المرتقبة ؟ ، وما هي أوزان تلك الأهداف مقارنة بالمكاسب المحتمل أن يتحصل عليها النظام نتيجة المشاركة ؟
في جميع الظروف على المعارضة السياسية لعزيز أن تنظر للمشاركة في الانتخابات كفرصة لتكوين نواة تحالف سياسي يمكن أن يمثل فيما بعد معارضة سياسية حقيقية فاعلة ، فليس الهدف من المشاركة في الانتخابات دائما الفوز بل يلزم المعارضة إدراك أن المشاركة في الانتخابات لا تأتي دائما في إطار السعي إلى الفوز بها ، وإنما في إطار تحقيق هدف أو مجموعة أهداف برؤية شاملة وبعيدة المدى للتغيير ، فخيار خوض غمار المعركة الانتخابية المرتقبة خطوة على الطريق السياسي الصحيح ، مما يحتم على المعارضة سلك مسار المشاركة الذي سيحقق نجاحات أفضل بكثير من حالة الركود الحادثة الآن فبالمشاركة ستفرض المعارضة إحداث تحول ديمقراطي سيمكنها من تحقيق جملة من المكاسب :
ــــ المكسب الأول : إضعاف النظام وتقويضه فدخول مرشحي المعارضة السياسية في منافسة انتخابية أمام ثلة الداعمين لعزيز بغض النظر عن نتائج الانتخابات سيخلق ساحة معركة انتخابية يضغط كل أطرافها على النظام عبر أدواتهم التي يمتلكونها ، مما سيؤدي حتما إلى استنفاذ طاقة النظام في معركة لن تكون سهلة عليه .
ـــ المكسب الثاني : عودة الحياة السياسية ، حيث ستساهم المشاركة في خلق نواة لمعارضة سياسية قادرة على تنظيم حراك شعبي بشكل جديد ومختلف عن سابقيه، كما ستساهم في تعزيز الخبرات السياسية للكوادر الشابة الجديدة خصوصا أولئك الذين تمثل مشاركتهم في انتخابات2018 و 2019 بداية ممارسة العمل السياسي .
ـــ المكسب الثالث : العودة إلى مربع العمل السياسي ، والانتقال من حالة الركود غير المسبوق إلى حالة تسمح بالمشاركة الفعالة ، وتقليل الخسائر التي أصابت الحياة السياسية والحريات العامة وتخفيف القبضة الأمنية ، بعيداً عن التحليق في فضاء تحقيق نصر كامل على النظام .
ـــ المكسب الرابع : إزاحة عزيز مما سيمكن من إضعاف منظومته الحاكمة وبالتالي تحقيق إصلاحات سياسية كتغيير لمنظومة الحكم وتقويض هيمنة مؤسسة الجنرلات على الحكم ، وعموما إزاحة عزيز يضمنها الدستور وأمر سهل ، وبذلك يكون انتحارا سياسيا للمعارضة إذا لم تخض غمار المنافسة الانتخابية 2018 و 2019 من خلال المشاركة بكل ثقلها .
ــــ المكسب الخامس: فرصة تحريك الشارع من خلال المشاركة في الانتخابات : فقد أبانت مقاطعة المواجهة إبان التعديلات الدستورية الخوف الذي يسكن النظام العزيزي من تحريك الشارع ضده ، فالمشاركة في الانتخابات المرتقبة هي فرصة مواتية للمعارضة التي طالما سُكنت بتحريك الشارع ولحظة ملائمة في ظل الاستياء الشعبي والضيق المعيشي المتزايد بسبب ارتفاع الأسعار وتردي الأحوال المعيشية للشغيلة العمالية ، ، فمن الواجب على المعارضة أن تشتبك مع حدث الانتخابات المرتقبة بكسر جدار الخوف وإعادة ألق الاحتجاجات وروح التغيير المأمول، فلا مفر إذن من أن نستثمر الفرصة التي ستصاحب العملية الانتخابية عبر التحرك في الشارع وخلق قوة شعبية ستتسع مساحتها مع الوقت وتساهم في عودة الحركة للشارع مرة أخرى وتساهم في إضعاف النظام عبر التواصل مع القوى السياسية وبناء الجبهات للضغط والتأثير في المشهد دون مهادنة.
لكن مهم أن لا تغفل المعارضة أنه مهما كانت التنازلات من النظام فإن الجو العام الذي سيطبع المناخ السياسي المحتضن للانتخابات هو غياب المناخ السياسي الملائم ، إذ سيكون من الصعوبة بمكان الحديث عن عملية إنتخابية وفق ما تقتضيه من ضمانات وتمهيد يشمل إجراءات تعيد الحياة السياسية لجو يسمح بالتنافس الانتخابي ، فلن تجري الانتخابات المرتقبة في مناخ سياسي ملائم للعملية الانتخابية مهما كانت التزامات عزيز وأزلامه فالتجارب السابقة أكدت مضيه في العبث بكل مسار انتخابي كما يحلو له ، ولكن رغم ذلك لا مناص من المشاركة فلا مبرر لترك الساحة خالية الوفاض فعلى الأقل كسب الوصول للناخب خطوة في غاية الأهمية وإحراج النظام مهمة لا تعوض بثمن وتعريته أمام الجماهير وإعلاء روح الخطاب السياسي في مواجهة مشاركاتية أهم من الركون والجمود ومقاطعة بلا معنى ولا تأثير في رفض مسار النظام ، ولعل معركة التعديلات أبانت بقوة للمعارضة ضعف قدرتها في تنفيذ مقاطعة فاعلة مستمرة لا تنتهي بانتهاء المسلسل الانتخابي الأحادي ، وما تجربة المقاطعة الفاعلة للتعديلات إلا درسا مهما للمعارضة يؤكد ضرورة أن تشارك مهما كان حجم النزيف المتولد عن مشاركة انتخابية لا يتوفر المناخ الملائم لها ، فعلى جميع القوى السياسية المعارضة الوعي أن العبرة ليست في المشاركة من عدمها لكن العبرة بمدى القدرة والفاعلية في تحقيق الأهداف التي من أجلِها أُتخذ قرار المشاركة ، خصوصا أن عملية تغيير الأنظمة الاستبدادية تظل عملية معقدة والمشاركة حتى بدون بمطالب أفضل من الانعزال فلا مانع يمنع المعارضة من المشاركة ، حتى ولو أدت تلك المشاركة إلى نجاحات جزئية فذلك على كل حال أفضل بكثير من حالة الركود الراهنة ، فتارة نرغم واقعيا على أن نسلك مسارا بعيدا عن الهدف الرئيسي لنا ،ولو تطلب الأمر أن نخسر معركة ونربح حرب .