والعقل بعد أن يصل إلى الحكم بحقيقة وجود الله عن طريق الآثار التي خلقها الله سبحانه وتعالى يرى نفسه عاجزا عن فهم الحقائق المحيطة والمتصلة به، ويرى من الواجب أن يكون هناك اتصال واضح بينه وبين خالقه ليرشده ويهديه إلى الأمور التي يقف عاجزا أمامها ولا قدرة له على حلها. ولما كان العقل محدود (14) والمحدود لا يستطيع أن يتصل بغير المحدود شاء الله العظيم الخالق المدبر أن يتصل هو بنا. ثم أتت رسل تخبر أنها أرسلت من الله،
ببراهين تفوق عقل الإنسان، فأتى موسى وعيسى ثم محمدا صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون البرهان الذي يأتي به الرسل هو المعجزة البشرية التي تثبت حقيقته وتبين هويته، وتظهر رسالته وتؤكد بأنه رسول من عند الله.
والمعجزة الأخيرة هي القرآن الكريم الذي أتى يجدد من الناحية الشرعية علاقات الإنسان بنفسه وبخالقه الكريم، وبغيره من بني الإنسان.
والخطاب القرآني يبين أن عقائده مبرهنة فهو يخاطب القلب والوجدان والاعتماد عليهما أساسا للاعتقاد, وهذا ما لا نجده في بعض العقائد الأخرى التي تقول:( آمن ثم أعلم) أو (أغمض عينيك ثم اتبعني).
بدليل قاله تعالى﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾(15) وقوله جل وعلا﴿ قل هذه سيبلى أدعوا إلى الله على بصيرة ﴾ (16) .
وأكثر من هذا أنه يتبع مسائله بالحجة المقنعة الدامغة, والبرهان الواضح, الذي يملك أزمة العقول ويأخذ الطريق إلى القلوب. فالقرآن الكريم يقيم الأدلة في مسألة الألوهية من الكون, ومن النفس, والحياة, وفطرتهم, فلا مناقضة بينه وبين فطرة الإنسان..
يقول عز من قائل ﴿ فلينظر الإنسان مم خلق﴾ (17) ﴿ أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت﴾(18)
﴿ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من آلهة إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض﴾ (19)
﴿إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذونه منه ضعف الطالب والمطلوب﴾ (18) إلى غير ذلك من الآيات فهي تأمر باستعمال الحس لنقل الواقع حتى تصل إلى النتيجة الصحيحة.
وفي الأحكام نجد: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم﴾(19) ﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾(20)
﴿أوفوا بالعقود﴾ (21) ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾(22) ﴿حرض المؤمنين على القتال﴾ (23).
﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع..﴾(24), إلى غيرها من الآيات وكلها تعطي أحكاما محسوسة لوقائع محسوسة.
لكن قام في التاريخ من حاول أن يعارض، وعارض وأتي بكلام زعم أنه قد حاكي به كلام الله عز وجل، ولكنه جاء مرذولا سمجا لا قيمة له"(25)
(من ذالك ما حدث من الشاعر العربي لبيد ابن ربيعة, الشهير ببلاغة منطقه وفصاحة لسانه، ووصالة شعره. فعندما سمع أن محمدا صلى الله عليه وسلم يتحدى الناس بكلامه قال بعض الأبيات ردا على ما سمع، وعلقها على باب الكعبة، وكان التعليق على باب الكعبة امتيازا لم تدركه إلا فئة قليلة من كبار شعراء العرب ، وحين رأى أحد المسلمين هذا أخذته العزة، فكتب بعض آيات القرآن، وعلقها إلى أبيات لبيد، ومر لبيد بباب الكعبة في اليوم التالي، ولم يكن قد أسلم بعد، فأذهلته الآيات القرآنية، حتى إنه صرخ من فوره قائلا:(والله ما هذا بقول بشر، وأنا من المسلمين).
وكان من نتيجة تأثر هذا الشاعر العربي العملاق ببلاغة القرآن أنه هجر الشعر، وقد قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما: يا أباعقيل: أنشدني شيئا من شعرك، فقرأ سورة البقرة, وقال: ماكنت لأقول شعرا بعد أن علمني الله سورة البقرة وآل عمران.(26).
ومن ذالك أيضا ما وقع لاين المقفع كما جاء في كتاب المستشرق (ولاستن) وعلق عليه بقوله: ".. إن اعتداد محمد بالإعجاز الأدبي للقرآن لم يكن على غير أساس، بل يؤيده حادث وقع بعد قرن من قيام دعوة الإسلام" (27)
والحادث كما جاء على لسان المستشرق، هو أن جماعة من الملاحدة والزنادقة أزعجهم تأثير القرآن الكبير في عامة الناس، فقرروا مواجهة تحدي القرآن، واتصلوا لإتمام خطتهم بعبد الله بن المقفع 727م، وكان أديبا كبيرا. وكاتبا ذكيا. يعتد بكفاءته فقبل الدعوة للقيام بهذه المهمة..وأخبرهم أن هذا العمل سوف يستغرق منه سنة كاملة، واشترط عليهم أن يتكلفوا بكل ما يحتاج إليه خلال هذه المدة.
ولما مضى على الاتفاق نصف عام، عادوا إليه، وبهم تطلع إلى معرفة ما حققه أديبهم لمواجهة تحدي رسول الإسلام، وحين دخلوا غرفة الأديب الفارسي الأصل، وجدوه جالسا والقلم في يده، وهو مستغرق في تفكير عميق، وأوراق الكتابة متناثرة أمامه على الأرض، بينما امتلأت غرفته بأوراق كثيرة، كتبها ثم مزقها.
لقد حاول هذا الكاتب العبقري أن يبذل كل مجهود، عساه أن يبلغ هدفه، وهو الرد على تحدي القرآن المجيد..ولكنه أصيب بإخفاق شديد في محاولته هذه، حتى اعترف أمام أصحابه، والخجل والضيق يملكان عليه نفسه، أنه على الرغم من مضي ستة أشهر، حاول خلالها أن يجيب على التحدي، فإنه لم يفلح في أن يأتي بآية واحدة من طراز القرآن!!
وعندئذ تخلى ابن المقفع عن مهمته، مغلوبا مستخذلا"!! (28).
وغيره كثر ممن حاولوا مواجهة هذا التحدي، غير أنهم أخفقوا إخفاقا ذريعا, من هؤلاء أبو الحسن أحمد بن يحي المعروف بابن الرواندي، والنضر بن الحارث، وطليحة بن خويلد ألأسدي, ومسيلمة بن حبيب الكذاب وقد كان مسيلمة من فصحاء العرب، وكان إذا تكلم على سجيته جاء بكلام جيد، لا يوزن بشيء من السخف الذي انحط إليه عندما حاول تقليد القرآن ومعارضته.
وهكذا لا يزال تحدي القرآن الكريم قائما ومستمرا على مر القرون والأجيال وهو معجز في القرن العشرين أكثر مما كان عليه لأنه استمر تحديه أربعة عشر قرنا. ومع نمو العقل البشري عجز الإنسان عن الإتيان بسورة واحدة من مثله، وهذا هو برهان التجربة والمشاهدة، وهو الذي عناه الخطابي في كتابه:" بيان إعجاز القرآن" عندما قال:
" ...والأمر في ذالك أبين من أن نحتاج إلى أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه" (29)
وبيان ذالك أن العرب بدأوا فسألوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية تدل على صدق دعوته ورسالته. فأخبرهم الله تعالى بأن القرآن أعظم آية تدل على ما يريدون، وذالك في قوله تعالى:
﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفيهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذالك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ﴾(30)
ولكن الكافرين أنكروا أن يكون في شيء من آي القرآن ما يدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وادعوا أنه كتابا كغيره ليس فيه ما يعجز عن الإتيان بمثله، وأعرضوا عنه قائلين ما نقله الله على لسانهم؛ ﴿ قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين﴾ (31)
وحينئذ تحداهم الله ـ أو قل تحداهم القرآن إن شئت ـ أن يأتوا بسورة من مثله.
وأفرغ هذا التحدي في قوالب مختلفة من اللفظ والأسلوب، وأنهضهم إلى الإتيان بمثله أو بمثل أقصر سورة منه، بالتقريع والتحميس ومختلف أشكال التحدي فقال لهم مرة:
﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين﴾(32)
وقال مرة أخرى:
﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾(33) وقال لهم مهيجا ومقرعا:
﴿ أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين﴾.(34)
ولقد كان من مقتضى قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، وما سمعوه من هذا التقريع والتحدي وما كان يعتلج في صدورهم من الحقد والكراهية لهذا الذي جاءهم، النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانوا منصرفين إليه من البحث الدائب عن أي وسيلة يمكن الاعتماد عليها، لإفساد أمره عليه ومنع دعوته من السير في طريق النجاح.
كان من مقتضى ذالك كله أن ينهضوا لمعارضته ومجاراته بفصول من كلامهم البليغ، ليقطعوا بذالك خطره عنهم وليعلنوا بذالك لمن قد يتحدث بهذا الذي يأتيهم به من القرآن، أنهم قد جاءوا بمثله وخير منه.
ولكنهم _ على الرغم من كل هذا ـ لم يفعلوا شيئا، ولم يستجيبوا لتحدي القرآن الكريم في محاولة ما، غير أنهم تحولوا عن قولهم السابق:
(لو نشاء لقلنا مثل هذا)، إلى زعم أن محمدا (35) إنما يأتيهم بسحر..أو كهانة..أو شعر فريد في بابه, كما قال الله تعالى عنهم:
﴿ ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون ﴾(36)
ثم إن آيات التحدي هذه ظلت مسجلة في كتاب الله تعالى حتى يوم الناس هذا, تقرع آذان العلماء والأدباء والشعراء والبلغاء على اختلاف نحلهم ومذاهبهم, في كل عصر وقرن.
انه أغرب تحد في التاريخ، وأكثره إثارة للدهشة، فلم يجرأ أحد من الكتاب في التاريخ الإنساني ـ وهو بكامل عقله ووعيه ـ أن يقدم تحديا مماثلا، فإن مؤلفا ما لا يمكن أن يضع كتابا، يستحيل على الآخرين أن يكتبوا مثله، أو خيرا منه..فمن الممكن إصدار مثيل من أي عمل إنساني في أي مجال, ولكن حين يدعي أن هناك كلاما ليس في إمكان البشر الإتيان بمثله، ثم تخفق البشرية(37) على مدى التاريخ في مواجهة هذا التحدي، حينئذ يثبت تلقائيا أنه كلام غير إنساني، وأنها كلمات صدرت من المنبع الإلهي Divineorigin، وكل ما يخرج من المنبع الإلهي لا يمكن مواجهة تحدياته"(38)
على أننا ندعم هذا البرهان بميزان الاستقراء التام الدال على أن القرآن لا يمكن أن يكون كلام غير الله عز وجل كما يقول البوطي مستدلا على ذالك بأن عجز العرب كلهم عن الاتيان بمثله, دليل جلي علي أنه لا يمكن أن يكون من تأليف أحد منهم كورقة ابن نوفل، وبحيرا الراهب، أو غيرهما..
إذ أن الاحتمال مخالف لبرهان العجز الذي دلت عليه التجربة البشرية والمشاهدة على أن القرآن فيه تعليق على أحداث وقعت بعد موت ورقة وبحيرا (39)، فكيف يكون مع ذالك من إيحائهما أو تأليفهما؟؟
فكلمات القرآن، رغم أنها كانت عربية لم تتجاوز حدود هذه اللغة وقاموسها، تمتاز في صياغتها وموقع كل منها مما قبلها وبعدها بجرس مطرب في الأذن لم يكن للعرب عهد به من قبل، هذا إلى أن كثيرا من الاشتقاقات والصيغ الواردة فيه، تكاد تكون جديدة في النطق العربي، وهي مع ذالك تحي بمعناها إلى الفطرة والطبع، قبل أن يهتدي السمع إليها بالمعرفة والدروس.
وهذا مايظهر جليا من خلال شهادات علماء الغرب الذين قرؤا القرآن الغير مترجم بتدبر من هؤلاْء
1- المستشرق الألماني يوهان فك:
" إن لغة القرآن تختلف اختلافا غير يسير عن لغة الشعراء السائدة في الجزيرة، فلغة القرآن تعرض من حيث هي أثر لغوي صورة فذة لا يدانيها أثر لغوي في العربية على الإطلاق.
ففي القرآن لأول مرة في تاريخ اللغة العربية يكشف الستار عن عالم فكري تحت شعار التوحيد، لا تعد لغة الكهنة والعرافين الفنية المسجوعة إلا نموذجا واهيا له من حيث وسائل الأسلوب، ومسالك المجاز في اللفظ والدلالة.
كورسل ( مفكر) )2-
القرآن الكريم معجزة إلهية بليغة، ليست من قول بشر إنها معجزة دائمة ليست كأي معجزة هي أقوى من معجزة الموتى....يتواصل..