ما إن سمعت رئيس الجمهورية غداة استقباله الآلاف من الموريتانيين الغيورين على دينهم، الذين خرجوا للتعبير عن استنكارهم لما أقدم عليه بيرام ولد اعبيدي من إحراق لكتب فقهية ظلت معينهم الذين ينهلون منه العلم والمعرفة، ونبراسهم الذي يضيء ليل الصحراء البهيم، ما إن سمعت الرئيس وهو يقول إن الدولة "ستطبق فيه الشريعة" حتى كدت أقع مغميا علي من شدة الفرح.
التقطت أذني كلمة "تطبيق الشريعة" فطفت على جسدي قشعريرة لا توصف، وراح خيالي يجول في غدِنا عندما نطبق شرعة رب السموات والأرض، التي أنزلت لإسعاد الجنس البشري. حلمت بدولة لا يصطف شعبها في طوابير يشحت ثرواته، بل يقتسم هذه الخيرات على أساس من العدل والمعروف، للطالب منحة دراسية تسمح له بالتفرغ لطلب العلم، وللعاجز نفقة اجتماعية تخفف عنه، وللأرملة مشروع يدر عيها دخلا تعيل به أيتامها. رأيت شعبا يرفض أن يعيد منح ثقته لرجل – أو امرأة – أظهر العجز أو قلة الأمانة، شعب يأبى تسول حقه، فيفرض المساواة في الحصول على الوظائف بين أصحاب الكفاءات المتشابهة، شعب لا يقبل استغلال أي كان لما جعل بين يديه من سلطة، فيتظاهر ضده، ويصيح في وجهه أن توقف، فلا يوقف أحد ولا يسحل لموقفه ذاك. تخيلت دولة يساءل فيها المواطنُ البسيط المسؤولَ الكبير حين يقصر في أداء ما أوكل إليه من إيصال حقوق الناس إليهم، ويقاضي فيها المظلومُ من ألحق به الضرر، معنويا كان أم جسديا، فينتصر له القضاء وينزل العقوبة على الجاني، دون النظر إلى مركز أي منهما أو نفوذه، دولة تكون فيها السيادة للشعب. إلا أن أحرفا ثلاثة من كلمة الرئيس قطعت علي خواطري، وأعادتني ثلاثة عقود إلى الوراء، يوم سعى عقيد محاصر شعبيا لصنع قارب نجاة عبر المناداة بتطبيق الشريعة، بالموازاة مع سحل مئات الشبان في السجون. إذ لو كانت الشريعة عقوبة تنفذ في ضعيف أو مغلوب على أمره، أو كلمة يحاول بها طاغية فك طوق التغيير الملفوف حول رقبته، لو كانت محاضرة تلقى في مسجد عن حرمة الربا، أو حلقة في إذاعة حول التاريخ الإسلامي، أو درسا في فقه الصلاة، أو فقه السكوت – من يدري – لو كانت أيا من ذلك – أو هو كله – لكنا الآن مضرب المثل بين الدول، وقبلة العالم اللاهث وراء الازدهار. لكن الشريعة غير ذلك، وإن كان كل ذلك جزءا منها، إنها منظومة متكاملة تشمل مناحي الحياة جميعا، أساسها المتين إقامة القسط بين الناس في كل شيء، في أرزاقهم وفي أمنهم، في الحرص على تعليمهم وتأمين صحتهم، في رعاية مصالحهم وحماية ثرواتهم وحفظ كرامتهم، في صيانة حقوقهم قبل مطالبتهم بأداء واجباتهم، إنها – بإجمال كما عبر عن ذلك الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه - "إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام." فهل ستطبقها سيادة الرئيس؟