يشيع في مجتمعنا ، اليوم، وهو المسكون بطبائع البداوة والتعصب القبلي والفئوي، والجراح والثارات التي لا تموت، وثقافة التنافس على الكلأ والماء، وغيرها من وسائل العيش الشحيحة؛ يشيع في هذا المجتمع إذن كثير من المظالم والجرائم، وخاصة من تلك المرتبطة بالظواهر الطارئة المتصلة بمفردات حياة المجتمعات المعاصرة ،
ولا مكان لها في الذاكرة الجمعية للناس؛ وفي مقدمتها الانحرافات في العقائد والأخلاق، وجرائم الرشوة والاحتيال، وتزوير الوثائق والأصوات والشهادات والأدوية والأغذية، والغش والتحايل، والمتاجرة في الممنوعات... والقائمة تطول.
هي في الواقع جرائم ومظالم، لا يكاد يخلو منها أي مجتمع، و خاصة من هذه المجتمعات المتخلفة، ومن الحق القول إن علاجها يتطلب إصلاحات جذرية على مختلف الصعد، تحقق الإنصاف وتنتج عدالة اجتماعية غائبة كليا، عدالة تتكفل فيها المجموعة الوطنية بالحاجات الأساسية للمواطنين، ويعاد فيها توزيع الثروة بما ينال معروفه الفئات الأقل حظا والأكثر هشاشة بالإضافة إلى فرض مستوى أعلى من الوعي والحيطة والمراقبة، وبعض المتابعة اليقظة ومداهمة واعتقال الضالعين .. ثم تقديمهم إلى المحاكمة، لينالوا جزاءهم العادل.
أما أم الكوارث الناجمة عن الفساد المعشش في مفارق الدولة، وتفاقم الجريمة، وتنوع المظالم، والتي تخلط العديد من الأوراق، وتهدد المجتمع فيما لديه من قيم دينية وأخلاقية، فهي ظاهرة التستر- بالحق والباطل- على مقترفي الجرائم والمظالم وعتاة المفسدين في الأرض، ومساعدتهم بكل الوسائل- حلالا وحراما - على الإفلات من المساءلة، بله المحاكمة والعقاب؛ والأدهى من ذلك هو إضفاء دثار فقهي على تلك التدابير غير الأخلاقية، وتوريط فقهاء العشائر والقبائل فيها، والزج بأنفسهم في المجرى العام للفساد، إن لم يكن غوصا في أعماقه، فتسكعا على شطآنه، بالتستر على مقترفي المظالم والجرائم، وافتراء مخارج لهم، من خلال ما بات اليوم عنوانا معروفا ومشهودا، هو: "فقه الفساد".
"فقه الفساد" هو عشبة خبيثة، أخرجت شطأها واستوت على سوقها، حول شطآن سيل الفساد العرم، فتعهدها "فقهاء الفساد" بالرعاية؛ وهؤلاء هم بعض حفظة المتون والأراجيز والنوازل التاريخية، ممن تلبسوا سمة الفقهاء، واقتحموا عليهم عرينهم، ثم تفرغوا لترصد جرائم وخطايا وأخطاء أقاربهم وأهليهم ومحاسيبهم وزبائنهم؛ حتى إذا ما اقترف أحد أولئك منكرا ما، انبرى "فقيه الفساد" للدفاع عنه، بالحق أو بالباطل؛ فاجترح لكل مجرم مخرجا قانونيا، ولكل جرم مسوغا أخلاقيا، ثم مكنه من الإفلات من عقوبة الدنيا.
للآخرة نصيبها من فقه الفساد، أيضا، فربما باع أحد "تيفاية" الفقه مقعدا في الجنة، أو رزمة من الحسنات، أو تحمل حملا من السيئات، فقبض ثمن الصفقة معجلا، وأسمع المجرم الضحية مقولة فقهاء الفساد المشهورة: "ديرها على رقبة عالم وامرقها سالم"؛ فإذا لقي أحد عتاة المجرمين ومقترفي السيئات، اجتمع باعة الدين من كل حدب وصوب للصلاة عليه، وإن كان شر الناس وأكثرهم بطشا ومجاهرة بالفجور والعصيان، ثم بالغوا في توديعه وتكريمه، والاستغفار له، وتفننوا في نشر أكاذيب الرثاء الممجدة له، نظما ونثرا؛ ومن جاء يذكرهم ببعض جرائم الهالك وغاراته وفتكاته وضحاياه، رجموك أو كادوا يفعلون.