الصحافة عيد وترويض وتخفيض/ الشيخ ولد المامي

القصة: اشتكى اهل الربض ليوحنا الاسقف من العطش وقالو ان بارون الناحية حول مجرى القناة المائية الي مزارعه فجفت قناة ريهم فأبلغ يوحنا الكنيسة بذلك فأمرت البارون بسد قناة المزارع حتى تعود قناة الشرب للتدفق فامتثل البارون لأمر الكنيسة لكنه امر غلمانه خلسة بإتلاف قناة الري نكاية بأهل الربض الذين ثاروا ضد قناته وبالتالي ظل سكان الربض عطشى لكن دون ان يكون لهم ملجأ هذه المرة سوى شق قناة جديدة.

المقال: يرى معظم المراقبين ان حرية الصحافة في موريتانيا لم تزل نظرية وغير مفعلة بالكامل حتى الان وذلك لأن معظم الصحفيين لم يزالوا يعاملون كجسم غريب ودخيل بل ومنحط في المنظومة السلطوية المكونة للجسم العام للدولة، ما جسده التخفيض الأخير لمستوى حرية الصحافة في البلد في أحد التقارير الدولية.

ومن منظار قياسي للهوية الاجتماعية العامة لأصحاب المهن على المستوى المحلي فإننا نجد أصحاب مهنة المتاعب يحتلون درجة منحطة في سلم المراكز الاجتماعية للتكوين الجمعي من حيث مضمون الهوية ورمزيتها بشكل عام، ناهيك عن وضعيتهم المادية المزرية ومكانتهم المجتمعية والتي تهدد استمرار الحقل في كينونته ووجوده على ارض الواقع، كدعامة من الدعائم التي تقوم عليها الدولة الحديثة بما تعنيه من تكامل في السلطات وكمال في ألوان الطيف السلطوي وتعبير عن هموم المواطن، ما يجعلنا امام تساؤلات جوهرية عن أسباب ذلك وعمن المسئول عنه.

وإذا وضعنا في الاعتبار تلك الإصلاحات التي قيم بها من طرف السلطة التنفيذية بسن منظومة قانونية تحد من حرية المقص الرقابي وتترك حيزا أكبر من الحرية للصحفي وتلغي عقوبة الحبس في النشر، فإننا نجد المبرر شبه الكافي لإبعادها عن المسئولية التامة عن ذلك، لكن لو وضعنا في الاعتبار ان تفعيل تلك القوانين لم يكن بتلك الشفافية المطلوبة وقطعها للموارد المالية الضرورية لفعالية الحقل، فإننا نتركها في الملعب، وبالتالي فعلى من نلقي بقية المسئولية...؟

وبدون مجاملة فان بقية المسئولية أومن تولى كبرها على الاصح هم العاملون في الحقل الإعلامي من ادعياء ومتثاقفين وانتهازيين يعملون تحت "الكونترول"، وحينما أقول عاملين فإنني اقصد الدلالة الحقيقية للكلمة كجمع معرف ب"أل" يفيد العموم والشمول، صحيح انه ما من قاعدة الا ولها استثناءات، لكن في هذه المسألة لن اجد فصيلا الا وله حظ من المسئولية، مهما كان قطاعه ورقيا كان او الكترونيا مسموعا كان او مشاهدا، نقابيا كان ام انفراديا، عموميا كان ام خصوصيا، فلكل جانبه من تلك المسئولية، فليس للصحفي ان يقوم بما من شأنه أن يشوه المهنة، وحتى لو فعل فليس للصفي المهني – ان وجد - الحق في السكوت على تلك الممارسات التي يمارسها آخر في الحقل وتتنافى مع القيم المقدسة لمهنته، وحتى لو فعل هو الاخر فليس للنقابات ان تكست عن ذلك، وحتى لو سكت الجميع فليس للسلطة الوصية الحق في ان تسكت عن الجميع.  

وبالتالي فإننا سنشرك الأنا والأخر في نفس المسئولية ولو بنسب متفاوتة، لكن لو قال قائل ان الظروف هي التي اجبرت الصحفي على تلك الممارسات وان غياب الموارد المالية الضرورية وعدم تفعيل دور المسئولين الإعلامين في المؤسسات وغياب قانون اشهار فعال وسبات "الهابا" العميق قد القى بظلاله على المسألة، فإنني أقول ان تلك الحجج استندت الى مبررات فضلا عن برغماتيتها تظل سببا اقل من الوجيه، بدليل ان قلة لم يزالوا متمسكين بخيط المهنية الرفيع، وهم بذلك يتركون شمعة أخيرة في آخر النفق، لكن تلك الشمعة الصغيرة تشكل شمس ضحى على رؤوس البقية أصحاب المنهج التبريري وبالتالي  يتحول التبريريون من جهاز رقابي تنويري تثقيفي محترم الى ثلة مرتزقة انتهازيين ينصبون الفخاخ لكل ذي باب موارب على المهنة، ويمزجون بين الفكر الرجعي والفكر التبريري الذي يحرف الثوابت ويشوه المبادئ ويفرغ القيمة الروحية للمهنة من معانيها، ويضرب ءاخر مسمار في نعش الثقة بين المتلقي لسيل لمعلومات وبين الصحفي، وبالتالي فان الأجهزة التنفيذية تبقى الرابح الوحيد في المعادلة، اذ لو غابت الثقة في الأجهزة الرقابية لوفر لها ذلك حيزا اكبر من الحريات في ممارسة الفساد والتلاعب بمصالح المواطن والتهرب من المسئولية، وبالتالي فإنه يصعب استبعاد اصابعها الخفية من ازرار ممارسة تلك اللعبة حتى ولو كان اللعب في الظلام، تحت ضغط التحولات التي يشهدها العالم في كشف المعلومة وعدم استعداد السلطة الحالية لفقدان شعارها في ترسيخ حرية الصحافة.     

وإذا كان الحال هكذا فإننا امام حالة ترويض دولتي صراعي يستخدم ترسيخ النماذج المعيارية التبريرية بغرض تنقية "الأنا" المنفذ، وشيطنة الآخر المراقب، بدليل أن استثناء قطاع مهني رغم الضمانات التي يمنحها له الدستور والقانون بافتراض انه جنس معادي او مرتزقة يستحقون العزل والطرد فان هذه الحالة من دغمائية الذات ورفضها الانفتاح على الآخر يدل على وجود متكتّم عليه في المنظومة المشتركة والسلطات المتقاطعة، والتالي فان اللجوء الى وضع صمام فولاذي على اذني المتلقي يتمثل في نظرة ازدراء للخطاب وشيطنة له يبقى هو السبيل الوحيد لذلك، وهنا يلجأ لـ"انا" الى مقاربة التمييع واغراق الحقل بالأدعياء، ومنحهم نفس الميزات التي يتمتع بها الأفراد في حقل "الآخر" مع وضعهم تحت "الكونترول" حتى تحقق المقاربة أهدافها، والتالي فان شريك السلطة التنفيذية في العملية يبقى هي نفسها لكن مع تغيير في الملامح والأشكال.

للعبرة: إذا كانت موريتانيا تتصدر العالم العربي في حرية الصحافة فقد قال الحكيم: إذا وجدت الجحش منتصرا على الجواد في أي مضمار فإن المشكلة عيب في الجواد وليست ميزة في الجحش.

7. مايو 2018 - 18:52

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا