في الأيام الأولى من شهر رمضان المبارك امتن الله سبحانه وتعالى علي بنعمة عزت على معظم الناس ، حيث وفقني للمشاركة في نشاط هوعبارة عن سقاية تدخل في إطارركن خيري دأبت جمعية " رياض الخيرية والثقافية " على تنظميه ضمن برنامجها الرمضاني الذي تعده كل عام بمناسبة حلول شهر رمضان المعظم ، تحت شعار " يا باغي الخير أقبل .. وياباغي الشر أدبر " ،
نظرا لعظمة الأجر وضرورة البذل والعطاء ومضاعفة الأجروالثواب في الشهر الفضيل ، انطلاقا من مبدء التعاون القائم على قوله تعالى ( وتعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ... ) وقوله صلى الله عليه وسلم الدال على الخير كفاعله . وتستهدف الجمعية فيه الكثيرممن ظمئو في الصيف وأضحو في العراء وتعففوا عن السؤال ، أو ضاقت بهم الأحوال فلم يجدوا سندا ولاملاذا يلجئون إليه ، وذلك حرصا منها على إشاعة التكافل وتعميق الأخوة وبث الرحمة بين أفراد المجتمع ، وقد شاءت الأقدار أن يكون حي " لمغيطي " الشعبي التابع لمقاطعة دار النعيم بولاية نواكشوط الشمالية مكان تنظيم النشاط المذكور الذي أظهرلنا أن سكان الحي كانوا ينتظرونه بقارورات وأواني أصبحت تصلي صلاة الإستسقاء وتدعوا في صمتها على من يشرب الزلال وإخوته في الدين والوطن والإنسانية ... يفتشون عن رؤية ابتساماتهم البائسة بحثا عن صفحات وجوههم الشاحبة من إطالة النظروالتحديق في المرايا وإدامة انتظارغيث الدولة وأملها الفارغ ألا منتظر .
لمغيطي ! حكاية حي عشوائي ينام على حافة الموت في عاصمة بلد تسمى رئيسه منذ لحظات وصوله الأولى لسدة الحكم باسم الفقراء ، ولكن الصفة هنا كاشفة لما لامسناه من تقصير الحكومة في تأدية ماتعهد به رئيسها في برنامجه الإنتخابي من محاربة الفقر والجهل والتقري العشوائي ... القائمون على الجمعية مكنونا من خلال تدخلهم النبيل من الإطلاع على ظروف أناس تسلط عليهم الفقر والظلم وحفتهم القمامة والعطش والجوع والفاقة والظلام والمرض ... بالمخاوف ! فضول صحفي وولع بالضرب بسهم الإنسانية في حياتي المهنية دفعاني إلى التجول بين أزقة الحي مستلهما من مقولة العظيم : جون كينيدي : " قد يموت شخص وقد تنهض الأمم أوتنهار ، ولكن الفكرة تظل حية لاتنتهي صلاحيتها بموت صاحبها ، فالأفكار مصيرها الخلود " . جمل تأملتها وكاملي شعور بأن من منح الله تعالى إسعاد الآخرين وإحلال السكينة بهم ، وتلك نعمة لاتقدر بثمن ، والإنسان من خوف الفقر في فقر لأن توقع المصيبة مصيبة أكبر منها ، بالرغم من أن الجمعية تمد يد العون لهؤلاء لا لشيء سوى وجه الله والعمل الخيري والإرتهان في سياقات النداآت الربانية والنبوية الخالدة : ( وماتقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ...) والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه ، فإن سكان الحي يعرفون أياديها الخفية وسواعدها الشبابية أكثر مما يعرفون من حكومتهم التي تضيف عنها إحدى نساء الحي بكلمات تعتصر صاحبتها المسنة مأساة من الألم تظهرحجم معاناة مسكينة تروي حكايتها الغارقة في بحر من الدموع المستعرة بشرارة الظروف ونقمة الحياة الحالكة : " نحن لانرى شيئا من دولتنا ، لامساعدات ولاماء ولامستشفيات ولامدارس ولا مشاريع للدخل ... أنا أظل أدورمع الزمن على عيالي وتكون النتيجة أن أرجع إليه بعد رحلة لا أستطيع وصفها بحبات من شعير نغذي بهم عيال الله الذي تراه أمامك ، سألتها هل وصلتكم عملية رمضان ؟ وهل أنتم صيام ؟ أجابتني وقد اغرورقت عيناها بالدموع وأسبلتا معا بوابل من المشاعر الناقمة تزيدهما حرارة الشمس باستسلام رهبة ودهشة : لم نسمع بها ونحن صيام ولكن على م نفطر ؟ مادام لم يأتنا مايساعدنا في ضنك العيش ومرارة الحياة السوداء ، " .
إنها حالة إنسانية من بين آلاف الحالات التي تقشعر لها الجلود المؤمنة في بلد ذا كثافة سكانية قليلة وثروات اقتصادية هائلة ، ومع ذلك مازالت مؤشرات الفقر المدقع تدغدغ في تصنيفه ضمن الدول ال25 الأكثر فقرا في العالم ، فيما تصل نسبة الفقر 46% منهم نسبة 75% من فقراء الأرياف ، هي إذا ظروف اقتصادية مزرية وجدتني أقرؤها بين سطور الحزن وأكواخ أحياء الصفيح الذين لايملكون أبسط مقومات الحياة الحضرية ولاحتى البشرية ، يتملكم إحساس راسخ بفراغ الدولة وهاجس الإهمال في الرعاية ، فالدولة لاتلوي عليهم بقليل ولاكثير ، لم توفر للنساء المطلقات والأرامل مايعلن به أشبالا وجدوا أنفسهم في قائمة ضحايا دروب الجهل والضياع ، أحاطهم الإهمال بنظراته المسافرة مع ما ترسمه الأناة من تشريد جيل لايكتب ولايقرء إلا من زاوية لاتشبه الفطرة كثيرا ! يصبحون على الشوارع ويمسون على قارعة الطريق بعد أن فقدوا دفء البيت وملاذ الأسرة بحثا عن لقمة عيش تحد من عجلة الحياة وجذوة العطش الضاربة بسكونها الافت في حي " لمغيطي " المسكون بشح المياه وانعدام الكهرباء والطرق المعبدة .. وحتى النظر إلى ميسرة تخفف من لهيب الشمس والمجاعة ولو بلمحة ساهمة ، في وقت تتحدث فيه الأرقام الرسمية عن نحو ثلاثة آلاف طفل مشرد في الشوارع ، حيث تنتشر ظاهرة تسول الأطفال في بلد يدفن الخيرات بين جوانب أرضه المعطاء ، وللمتصدقين ( من غير الحكومة ) عبرة في قصة عبد الله بن المبارك رحمه الله مع المرأة الفقيرة:
كان عبد الله بن المبارك – رضي الله عنه – يحج عاماً ويغزو في سبيل الله عاماً آخر، وفي العام الذي أراد فيه الحج.. خرج ليلة ليودع أصحابه قبل سفره.. وفي الطريق وجد منظراً ارتعدت له أوصاله. واهتزت له أعصابه!!.
وجد سيدة في الظلام تنحني على كومة أوساخ وتلتقط منها دجاجة ميتة.. تضعها تحت ذراعها.. وتنطلق في الخفاء.. فنادى عليها وقال لها: ماذا تفعلين يا أمة الله؟
فقالت له: يا عبد الله – اترك الخلق للخالق فلله تعالى في خلقه شؤون، فقال لها ابن المبارك: ناشدتك الله أن تخبريني بأمرك.. فقالت المرأة له: أما وقد أقسمت عليّ بالله.. فلأخبرنَّك:
فأجابته دموعها قبل كلماتها : إن الله قد أحل لنا الميتة..أنا أرملة فقيرة وأم لأربع بنات غيب راعيهم الموت واشتدت بنا الحال ونفد مني المال وطرقت أبواب الناس فلم أجد للناس قلوبا رحيمة فخرجت ألتمس عشاء لبناتي اللاتي أحرق لهيب الجوع أكبادهن فرزقني الله هذه الميتة .. أفمجادلني أنت فيها؟
وهنا تفيض عينا ابن المبارك من الدمع وقال لها: خذي هذه الأمانة وأعطاها المال كله الذي كان ينوي به الحج.. وأخذتها أم اليتامى، ورجعت شاكرة إلى بناتها. وعاد ابن المبارك إلى بيته، وخرج الحجاج من بلده فأدوا فريضة الحج، ثم عادوا، وكلهم شكر لعبد الله ابن المبارك على الخدمات التي قدمها لهم في الحج.
لمغيطي تجمع لبؤرة من المشاهد الإنسانية القاتمة ، تختزل في أبعادها لوحة من صورالتهميش والظلم والغبن والتخلي عن المسؤولية غير المبرر ، في ظروف لمغيطي الحجرية ، فإلى متى ستلتفت السلطات على ساكني الأرياف والكبات في ظل عهد رئيس الفقراء ؟؟ تقبل الله من القائمين على جمعية " رياض الخيرية والثقافية " أعمالهم الهادفة وجعلها في ميزان حسناتهم ، وضاعف لنا ولهم الأجر ووفقنا وإياهم لصيام رمضان وقيامه ، وختم لنا ولهم بالسعادة إنه ولي ذلك والقادرعليه .