من المسَلَّمِ به أن هناك هجوما غير مسبوق على دعاة الوسطية وعلى العلماء الربانييين الذين ينتقدون حكم بعض الطغاة ويشاركون في السياسة بآرائهم من قِبَلِ دعاة السلاطين وعلمائهم، واتهام أولئك بالمتاجرة بالدين وتسييسه، لكنني سأتوجه إلى أولئك الخيّرين عفا الله عنهم بسؤال مضمونه يقول:
لماذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة؟
قولوا لي من أجل إقامة الصلاة... لكنني سأقول، ولي الحق في القول ألم يكن يصلي بمكة! فلماذا هاجر؟
هاجر من أجل الصوم؟ ألم يكن الصوم أعظم أجرا في البلاد التي تشتد حرارتها، ومكة درجة حرارتها أشد من حرارة المدينة، فلماذا هاجر؟
هاجر من أجل أداء فرض الزكاة...
لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي مالا ليزكيه، فلماذا هاجر؟
هاجر إلى المدينة من أجل أداء الحج... ألم يكن الحج كله في مكة، فلماذا هاجر؟
لقد تأكدنا مما سبق أنه صلى الله عليه وسلم لم يهاجر إلى المدينة من أجل إقامة تلك الأركان التي أشرنا إليها، وإنما هاجر من أجل إقامة الدولة الإسلامية ونظام الحكم السياسي الذي جاء به الإسلام وتعضيد أركانه ليسود الإسلام وتُرفع راياته في جميع أقطار العالم وتُدَكَّ حصون كسرى وقيصر.
لكن دعاة السلاطين ينبذون ذلك كله ويقومون بتلوية النصوص وصرفها عن قصدها لتُلبِّيَ مصالح حكّامهم، ويخرجوا لنا بعدها في الإعلام ليقولوا لنا بأنه على العلماء ورجال الدين "اعتزال السياسة"...
أعود وأوجه سؤالا آخر إلى هؤلاء الخيريين المغلوبين على أمرهم، وأقول لهم: لماذا خرجت أم المؤمنين عائشة في معركة الجمل؟
وهي التي لم تُشاهد يوما قط، وكانت تُحدث الناس بالحديث رضي الله عنها وأرضاها من وراء حجاب، لكنها اليوم أصبحت تنزل إلى الميدان؟ فلماذا فعلت ذلك أم المؤمنين؟
فعلت ذلك لأجل الحكم، لأنه خط أحمر، فإذا فسد الحكم فسدت البلاد والعباد، وإذا صلُح صلُحا، ﻭﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﺖ ﻓﻲ ﺑﻴﺖ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ﻭﺍﻟﻨﺒﻮة ﺃﻥ ﺗﻐﻴﺐ ﻋﻦ ﻣﺸﻬﺪ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ، ﻭﺧﺼﻮﺻًﺎ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﻣﻔﺼﻠﺔ ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﻭﺣﻴﺎﺓ ﺍﻷﻣﺔ.
ﻛﻴﻒ ﻻ ﻭﻫﻲ ﺃﻡ ﻟﻠﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺪﻓﻌﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﺑﺎﻟﻮﺍﺟﺐ ﺍﻟﻤﻠﻘﻰ ﻋﻠﻰ ﻋﺎﺗﻘﻬﺎ، ﺛﻢ ﺍﻹﺣﺴﺎﺱ ﺑﺎﻟﻘﺪﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﻭﺍﻟﺘﻐﻴﻴﺮ ﻭﺍﻹﺻﻼﺡ ﺑﻴﻦ ﺃﺑﻨﺎﺋﻬﺎ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺇﺫﺍ ﺩﻋﺖ ﺍﻟﺤﺎﺟﺔ ﻟﺬﻟﻚ.
ولقد صدق العلامة الريسوني حين قال: (من تدين ولم يتسيس فقد ترهبن، ومن تسيس ولم يتدين فقد تعلمن)، والعلمانية لُبُّ أساسها فصل الدين عن السياسة، فإذن أنتم تريدوننا أن نصبح علمانيين وأن نرفع معهم ضمنيا شعار: "اتركوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
وما علينا نحن في هذا كله إلا أن نستيقظ وننتبه ونتيقن من أن الأمة الإسلامية أشد داء ابتليت به هم: "دعاة السلاطين، ودعاة الانحلال"، فالاثنين لكل منهما خطورة لا يعلم قدرها إلا الله، فدعاة الانحلال هم الملحدون الذين يدعون للحرية المطلقة وللانحلال الأخلاقي ولاعتناق العلمانية قاتلهم الله.
ودعاة السلاطين هم الذين يدعون لطاعة ولي الأمر فاجرا كان أو ظالما، خائنا أو مطبعا، ووظيفتهم هي إرضاء حاكمهم ولو أدى ذلك إلى سخط ربهم عليهم... فتراهم يحدثون الناس عن طاعة ولي الأمر، ولا يحدثونهم عن الحكم ولا عن إيجابياته إن كان وفق ما شرع الله أو سلبياته إن خالف ذلك...
يختارون من النصوص ما يوافق مزاج أسيادهم، ويحدثون العامة بقوله تعالى: ((يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق...)) ويفسرون لهم فرائض الوضوء ويكشفون كل ما فيها من إشكال، وما أجمل ذلك وما أحوجنا إليه، لكن ما يحيرني هو أنهم لا يتعرضون في حديثهم ولو مرة واحدة لقوله جل جلاله: (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما))، لأنها تتعلق بشؤون بالحكم، ولا لقوله تعالى: (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون))، وإن كانت الآيات كلها في سورة واحدة، لأنهم يريدون أمة غافلة عن حكمها خاضعة للغرب عن طريق عميله الذي نصَّب عليها.
#فلك_الله _يا _أمة _الإسلام
اللهم إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد مسها الضر وأنت أرحم الراحمين.