يجد المتابع للمشهد السياسي الموريتاني في الفترة الأخيرة صعوبة في الحصول على فضاء جدي لنقاش واقع البلد الآن والمقارنة بينه وماضيه القريب أو لصياغة رؤية موحدة من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة. وتعود حالة الندرة هذه إلى سيطرة التفاهة والسطحية على المجال العام بشكل مزعج ورهيب.
ومن أبرز أوجه هذه التفاهة المنتشرة مؤخرا اختزال الحل السياسي في الحصول على تشكيلة للائحة وطنية من عالم افتراضي تحركه في الغالب نزوات المراهقين ومثاليات السطحين الدوغمائين. مؤكدا بتفاعلاته تلك على تجسيد حالة "تصّباع ريله" لبعض أساطيره وإصابة البعض الآخر بمتلازمة "أعوينات اجماعه".
وبالانطلاق من أن دوافع بعض الطامحين في النجاح بدخول البرلمان فقط من أجل إيصال صوت المواطن البسيط، إلا أن انخراط جل الشباب في هذا الطريق بالذات هو تكريس لمركزية سياسية تعتبر هي الأساس الأول لانعدام الجدية السياسية في البلد، بالإضافة إلى أنه يدعم الأسلوب السائد باعتبار البرلمان غاية وليس وسيلة كما يجب أن يكون. كما أن نواب اللائحة الوطنية لا يتمتعون بالتزام معين مع جهة محددة يمكن أن تحاسبهم في نهاية المسار، وهذا هو سر الصراع القوي على تلك اللوائح التي كان من الأفضل أن تكون مخصصة لنوّاب يمثلون الفنانين ونقابات التعليم والعمال والشعراء والمسرحيين والرياضيين وذو الاحتياجات الخاصة لتطوير النظم القانونية المتعلقة بهم ولمراقبة الخطط والبرامج الحكومية المتعلقة كذلك بقطاعاتهم.
لذا فإن أحسن طريق الآن لتجسد طموحات الشباب في الإصلاح السياسي يبدأ من الوعي بأهمية الريف سياسيا والدخول في صراعاته السياسية بأسلوب واقعي قادر على إزاحة وجوه الفساد من المشهد السياسي العام بتقويض دورهم في صراعات الساحة السياسية المحلية التي ينظرون لها كفرصة مرحلية لتحصين مواقعهم السياسية والإدارية دون إعطاء أي اعتبار لضرورة العمل على تطوير الخطاب السياسي المحلي من أجل الحد من معاناة السكان.
ويمكن القول الآن بعد توجه الدولة نحو اللامركزية أن تجسيد تلك الطموحات على أرض الواقع يتوقف بقدرٍ أكبر على مدى إيمان الشباب بقدراته واستعداده لتحمل مسؤولياته بأخذ زمام مبادرة العمل على اكتساح المواقع القيادية في البلديات الريفية والمقاعد الجهوية برؤية إصلاحية قادرة على إيقاف مسلسل الهجرة السنوية من الريف نحو العاصمة بتطوير قطاعي التعليم والصحة وتوفير خدمتي الماء والكهرباء في البلديات الريفية وخلق فضاء عام بالمقاطعات والولايات لتشجيع العمل الثقافي والاجتماعي ولحماية البيئة وتطوير السياحة، وحثّ شباب الداخل على الانخراط في العمل السياسي بوعي تام ينطلق من أن المصالح العامة مقدمة على المصالح الشخصية والقبلية؛ مع تكوينه على تبني ثقافةٍ غير عنصرية وفوق فئوية.
وفي الأخير إذا عملنا على هذا، ووجدنا من يقدر على تنفيذه، فسنكون بذلك قد قطعنا شوطاً كبيراً في تطوير العملية الديمقراطية والتأسيس لأركان مهمة في عملية البحث عن الإطار الأقرب لتجسيد مفهوم الحكم الرشيد واقعيا.