كثيرا ما يتم تقديم موريتانيا على أساس أنها من الدول الأقل سكانا في العالم، لكن في المقابل مع وفرة في الاقتصاد مما يجعلها مهيأة أكثر من غيرها لتكون دولة غنى ورفاهية، وأن ما يحول دون ذلك هو سياسات الفساد وسوء التسيير التي نشأت وترعرعت مصاحبة للدولة.
قد يبدوا للوهلة الأولى هذا التصور صحيحا ومقنعا، لكنك عندما تفحصه بدقة ستقف على وابل من المغالطات التي لا حصر لها بخصوص الأمر ومن ذلك:
أولا: أن الفساد وسوء التسيير هما نتاج للمجتمع، فالدولة التي تًحمل كل الآثام لا تعدو كونها حصيلة الأفراد المنحدرين من نفس المجتمع وإليه يحتكمون في كل ما يقدمون عليه من أفعال وتصرفات سواء كانت خيرة أم شريرة.
ثانيا أن أكثر من 40% من الموريتانيين لا يعَلقون على الدولة أية آمال في تحسين أوضاعهم ولا التخفيف من فاقتهم، فهم ما بين منشغل بثرواته الحيوانية أو زراعته المطرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ومن يظن أنه لا حق له في الدولة ولا يفقه حقوقه وواجباته حتى يتسنى له تأديتها للحصول على حقوقه، اللهم إلا إذا كان واجب التصويت الذي يجد نفسه مجبرا على تأديته تحت جشع السياسيين الذين لا يهتمون في الغالب بما يقض مضاجع المواطنين ويؤرقهم.
ثالثا: أنه لا مكان للدولة لمن لا يكتب ولا يقرأ و هذه صفة مميزة للكثير من الموريتانيين وهذا ما تشهد عليه إحصائيات الأليسكو التي قدرت الأمية في موريتانيا 2016 ب 40% .
وبناء على ما سبق فإن مسألة الغنى في موريتانيا هي أمر مجرد ولا علاقة له بالواقع وآية ذلك أن المجتمع نفسه المؤسس للدولة هو من يعمل على صناعة الفقر وإشاعته بين الناس.
قد يبدو هذا لكلام غريبا لكنه هو ما يعبر بالفعل حسب وجهة نظري عن حالة موريتانيا وهذا ما سأعطي عليه مجموعة من الأمثلة والبراهين التي حسبنا نذكر منها :
-أن كل من تقلد منصبا في الدولة يظل يفكر في تطوير ذاته دون أن يلتفت إلى حال الفقراء والمساكين ويقدم نفسه كما لو كان المنصب ملكا له وأنه مسؤول عن أسرته فحسب وغير معني بما يواجهه المواطنين الضعفاء وبذلك يضيف لبنة إلى صرح الفقر الذي يتنامى بفعل ما نقدمه ونغترفه نحن بأيدينا.
- تحول بعض مسؤولي الدولة إلى سماسرة ومرتزقة بحيث أن الدولة لا تكل إلى أحدهم أي مشروع إلا وآثر الربح من خلاله ولو كان ذلك على حساب المواطنين الموجه إليهم أصلا أو حرمانهم منه تارة لصالح قبيلته وعصبيته وبالتالي يبقى من لا "خيمة كبيرة" له ولا "قبيلة سمينة" له قيد التهميش والإقصاء .
-أن توزيع المناصب في الحكومة يأخذ في الغالب شكل تركة يصيب كل منها نصيبه ويتمسك به دون إشراك الآخرين فيه وبالتالي تكون النتيجة أن يزداد ثراء ويزداد الفقراء فقرا.
أما على المستوى الفردي، فإنك ترى شخصا تحسبه مسؤولا لكنك تذهل حين تراه ينفق من الأموال في سبيل قوت يومه ما لا ينفق في الشهر دون أن يتذكر أن هنالك فقراء يحتاجون للمساعدة، كما ترى استشراء الإسراف والتبذير في المناسبات دون الاكتراث لشأن الفقراء هذا فضلا عن الأموال الطائلة التي تنفق في سبيل الشهرة والجاه لا كصدقة سرية ينتفع بها صاحبها في مرحلة ما بعد الموت، فكل هذه الممارسات وغيرها تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج الفاقة في المجتمع وكأني بالجميع يقول "معا لنصنع مجتمعا فقيرا".