اقتربت العشر الأواخر من رمضان المعظم؛ وأزفـت آزفة أهم مواسم العام، للعمرة والزيارة إلى الحرمين الشريفين، في مكة المكرمة، والمدينة المنورة؛ ولقد تسارع سباق أهل الطول والسعةإ لحجز مقاعد لهم في أول طائرات الذهاب، وغرف لإقامتهم في أقرب الفنادق إلى حرم الله وحرم رسوله، وحجز مقاعد للعودة قبل زحمة طائرات الإياب.
يستحق من هيأ الله لهم إمكانية الانخراط في سباق العمرة والزيارة في العشر الأواخر من رمضان المعظم، كل تهنية؛ ومن المؤكد أن غالبية المواطنين من الفقراء المعدمين الذين لا يجدون ما ينفقون، يغبطونهم، حد الحسد، على ما هيأ الله لهم من عمرة وزيارة، ولسان حال كل منهم يلهج بالقول:{يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}.
تخلّف أفواج العمار الزوار، وراءهم، في كل موسم؛ شأنهم شأن الحجيج في الموسم الأكبر، كثيرا من الأسئلة، أبرزها وأبعدها أثرا، سؤالان:
أولهما: "من أين لك هذا"؟ وهو سؤال عتيق، فيه عبق من تاريخ مشرف، لكنه في بلادنا، ما بعد 10 يوليو 1978، ظل بغير جواب، رغم وجاهة طرحه المتمثلة في حالة الفقر المدقع التي تشل شعب الدولة الغنية بمواردها، بما في ذلك غالبية موظفيه وعماله، وباعته وتجاره، وزراعه ومنميه؛ فيما تتفاقم ظاهرة الإثراء بلا سبب وجيه، ومصادرها الحصرية الاتجار بالممنوعات، وتزوير الأدوية والأغذية والصناعات؛ فضلا عن السرقات والاختلاسات، والفساد السياسي، والرشاوى والمحسوبيات، وصفقات التراضي من تحت الطاولة؛ وكلها مصادر ثراء حرام، بلا خلاف بين أهل المعرفة؛ فكيف ينفق مقترف تلك الآثام الكبائر من كسبه الحرام على شعائر الله ونسكه ومأكله ومشربه وملبسه؟؟
السؤال الثاني: لو افترضنا أن حالات الإثراء اللافتة تلك، قد حدثت في إطار الجهد والتدبير، في ظل الطرق الشرعية- وهو افتراض بعيد كل البعد- أليس في حالات العوز المميتة، وحالات المرض الميئوس منها، وحالات التشرد والضياع، وحالات العطش والجوع والعري، وحالات الشيخوخة بلا سند أو معين، وحالات العنوسة التي تفتك بالشباب من الجنسين وتجره جرا إلى ركوب الصعب والذلول، والوقوع في الفواحش والمنكرات؛ أليس في كل ذلك خيار أفضل وأزكى عند الله من إنفاق الملايين في تلك السياحة الدينية غير المتعينة؟؟
أيها العمار الزوار!
إن المعوزين في بلادكم، وخاصة في هذه السنة الشهباء التي جف فيها الضرع ويبس الزرع؛ وعلى الخصوص قراباتكم وأرحامكم وجيرانكم، لهم أولى بتلك النفقات الباهظة من شركات الطيران الدولية والفنادق ووكالات السياحة؛ وإن الأجر المكتسب من نجدة الفقراء والمساكين من مال الله الذي استخلفكم فيه، لتفضل بأضعاف كثيرة أحر مناسك عمرة وزيارة غير متعينة شرعا.