يتمحور كتاب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" حول الأفكار المؤسسة للفرد والحضارة في نسق مفاهيمي ونحت بديع لمصطلحات جديدة.
ما يشغل بن نبي هو كيفية ملأ الفراغ الكوني أهو بالنظر تحت الأقدام حيث الأشياء أو ما يعبر عنه بثقافة السيطرة أم بالنظر إلى السماء وهو الثقافية الحضارية ذات البذور الغيبية والأخلاقية؟
إن المتألم إنما ينعتق من مشاكله الأرضية وبالتالي فهو مهيأٌ أكثر بتوجيه بصره إلى السماء حيث تبدأ الظاهرة الدينية فيظهر "الرسول" وتتبلور فكرة تبليغ الرسالة. وهنا يفرق بن نبي بين الأوروبي والشرقي الإسلامي، ففكرة الأوروبي في مضمونها الثقافي مزيج بين التقنية والجمال أما الآخر ففكرته قائمة على مزيج الخير والحقيقة.
هذا المزيج هو محور التأسيس الفكري لتصور العالم والحضارة، والفرد هنا يخضع لتأثير هذا المزيج وتفاعله وأهميته بالنسبة لكل حضارة ومجتمع ومدى محورية الأشخاص فيهما، فالأفكار قد تمتزج بالأشياء وهو ما يسميه "لحظات الاختلاط البابلية" التي تتمثل في تعاقب الدور الحضاري من خلال تبادل السيطرة على القمة والقاع. فبين السامي و الاري يخرج اليوناني مشغولا بملء فراغه بمشاعر الجمال كما لاحظ "تولستوي León Tolstó" في تأملاته العميقة حول الفن.
لا شك أن الأدب يصنع الوعي، ففيه ثناياه نستطيع إدراك الكثير من الأفكار، لذا فقد اشتغل بن نبي على دراسة عزلة بطلي القصتين المشهورتين:" كروزو Robinson Crusoe " و "حي بن يقظان"، أما روبنسون كروزفألقاه حطام سفينته إلى جزيرة نائية، ولكسر الملل ركز على الاشياء من حوله فصنع طاولة و التفت إلى أسباب عيشه، وأما بن يقظان فقد سعى في إنقاذ غزالته من الموت، وقاده ذلك إلى استكشاف أسرار الروح والخلود ومحاولة فهم النظام الكوني ومعرفة الإله الخالق.
فطاولة كروزو وروحانية بن يقظان عند بن نبي تظهر الفارق بين "غرب الأشياء" و "شرق الأفكار"، وارتباط الزمن بمفهومي الفكرة والشيء؛ لأن الزمن لا اعتبار به إلا في عالم الأشياء، والحياة لا معنى لها إلا عندما تنساب لحظاتها في طاولة كروزو الذي يراه بن نبي بالغ في تقدير الأمور عبر الزمن، وهو ما يدفع الغرب ثمنه، لذلك فإن البلاد الإسلامية وإن فرطت في تقدير قيمة الزمن في نشاطها فيجب ألا تسقط في النقيض فتغلو فيه دون النظر إلى آثار هذا الغلو المدمرة التي لا تخطئها عينٌ في البلاد الصناعية.
ومن هذا المنطلق المعياري انتقد مالك بن نبي الفكر الغربي لعدم إدراكه قيمة قانون التداول بين الأوج والحضيض في مسير ة الحضارة، فأوروبا قبل "لو كراس Lucrecio " و "بلانك Max Planck " وبعدها كانت الأرض المختارة للفكر الكلي ولوضعية "أوجست كونت" ومادية "ماركس" ثم صارت تجنح إلى الدوران حول مفهوم "الكم" و "الوزن" وبتسلسل هذا الغلو وصلت إلى المادية بشقيها البرجوازي والجدلي.
أما الفكر الإسلامي فمنصة انطلاقه هي قول الله-تعالى-:"{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ" آل عمران 110. فتقسيم الزكاة –مثلًا- قيمة ومبدأ اجتماعي، يضيف إليه الأسلام قيمة الخير ذي الصبغة الروحية وهو "القول المعروف"، وهو ما لا يُتَصَورُ في أي تشريعٍ مدني، وهذه القيم المضافة تعطي الروابط الاجتماعية النابعة من الفكر الإسلامي صبغتها الخاصة التي يطلق عليها بن نبي :" مفهوم التناقضات وسط الجماهير".
وهكذا يتعامل مالك بن نبي مع داء التخلف العضال في المجتمعات الإسلامية كجراح ماهر، فالمشكلة هي مشكلة "أفكار" فقدت توازنها مع عالمي الأشخاص والأشياء، ونتيجة لهذا الخلل نتج اضطرابٌ هائلٌ كان له أثره السلبي العميق على المسيرة الحضارية في العالم الإسلامي.
أولى علامات هذا الاضطراب هو عدم قدرة المجتمع "المتخلف" على الاستفادة من موارده "الأشياء" لافتقاره إلى الأفكار الرائدة وافتقاده للأسلوب الأمثل حتى يستثمرها في تطوير المجتمع، وهذا الفقر "الفكري" انعكست آثاره بشدة في المجال السياسي والاقتصادي، وهذا الشلل أدى بدوره إلى العجز عن مواجهة مشكلات الحياة وتجاهلها ثم هروب الجميع منها.
والحضارة عند مالك بن نبي هي:" جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمعٍ ما أن يوفر لكل عضوٍ فيه جميع الضمانات اللازمة لتطوره"، ويؤكد كذلك أن أية حضارة إنما هي :" نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمعٍ في مرحلة ما قبل التحضر "الدمغة" التي يدخل بها التاريخ" حيث تحدد المنظومة الفكرية للمجتمع الإطار الثقافي لحضارته التي تميزه عن غيره من الحضارات، وهنا تكمن الأهمية الوظيفية للأفكار كأداة تحليلية لفهم حركة المجتمع عبر مراحل تاريخية مختلفة. ففي مرحلة ما قبل الحضارة لا تتجاوز الثقافة الاجتماعية حدود الأشياء التي لا حياة فيها، مثلما كانت عبادة الأوثان في البيئة الجاهلية تجسيدًا لعالم الأشياء الناتج عن ضعف عالم الأفكار، وكذلك كالطفل الذي يعي وجوده من خلال تحسسه للأشياء، وتكون الرابطة بينه وبينها هو "الامتلاك المطلق" حيث يدخل كل شيء في فمه.
وفي طريقه نحو الحضارة يحدث التوتر الهائل بين المجتمع وبين عالم الأفكار، وعندها يكون عالم الأشخاص هو الجسر أو الأداة التي تتجسد فيها الأفكار الدافعة نحو التغيير، وهنالك يتشكل محيطٌ ثقافي مختلف نتيجة هذا الاتصال، وعندها تتحدد درجة تحضر هذا المجتمع بمدى التناغم بين عوالمه الثلاثة: الأفكار والأشخاص والأشياء. فإذا طغى عالم الأشياء أثناء النهضة يبدو في غلبة النزعة المادية والاهتمام بالكم على حساب الكيف، ويزداد النهم باستيراد وتكديس منتجات الحضارة دون النظر إلى ثقافة المنتج لها. وإذا طغى عالم الأشخاص تفقد الأفكار قيمتها الحضارية عندما يتجسد المثل الأعلى في شخصٍ، ويعدَ فقدان القدرة على النقد الموضوعي للأفكار من أشد العلامات على طغيان الفكرة التي تحولت إلى “صنم” يمارس جبروته الرمزي على نخبة المجتمع.
يشدد مالك بن نبي على أهمية القاعدة الأخلاقية للمجتمع في طور انطلاقه الحضاري، فكل مجتمع ناشئ يبحث دائمًا عن سندٍ له من القيم المقدسة، أدرك ذلك "روبسبير robespierre " عندما أضاف فكرة "الكائن الأعلى" إلى أيديولوجيا الثورة الفرنسية، فكانت بمثابة الحافز لتجييش الناس ولحظة إشراق ذات تأثير ملموس في صناعة القوالب الحاملة للأفكار داخل الثقافة الاجتماعية، ، ولكن المفارقة هنا – كما يذكر بن نبي – أن التاريخ يثبت لنا أن عالمًا مبنيًا في الأصل على القيم المقدسة يميل دائمًا إلى نزع صفة القداسة عن مبادئه كلما أوغل المجتمع في الطور الثاني من الحضارة: أي مرحلة الازدهار والتوسع.
لا يشكك مالك بن نبي من حيث المبدأ في حتمية الثورة في المجتمعات الإسلامية القابعة تحت نير الظلم والاضطهاد، ويصفها بـ“المفجر الذي يشعل نار البارود ليحرك عجلة المجتمع نحو قدره” ولكنه يرتاب في نتيجة الثورة حين يذكر أن “تاريخ الثورات في العالم يظهر كم أن مصيرها هش وغير مؤكد بعد انطلاقها، فالظاهرة الثورية لم تخضع بعد لعلم معياري يضع اطرادها تحت رقابة دقيقة”، وتحليله هذا يتفق تمامًا مع ما ذهب إليه المؤرخون المهتمون بدراسة تاريخ الثورات حول العالم حين قاموا بتقسيم أية ثورة شعبية تطيح بنظام حكم ديكتاتوري إلى: ثورة نمطية وثورة غير نمطية، ويتحدد الفرق بينهما ببساطة في أن الثورة النمطية تكون مصحوبة بثلاثة عوامل مترابطة متشابكة لا تنفصم وهي (برنامج ثوري متكامل وعقيدة ثورية وقوة تنفيذية) بينما تشتمل الأخرى على إحدى هذه العوامل فقط.
ينتقد مالك بن نبي ثورات العالم الإسلامي لأنها تفتح الباب مشرعًا لما يسميه بـ”الثورة المضادة”، وهي ظاهرة غالبًا ما تلازم الثورات بصورة كامنة في مراحلها الأولى حيث تتجسد في انضمام المندسين والمنتفعين وأصحاب الغايات المشبوهة في قطار الثورة، ممن يستخدمون اسم الثورة وشعاراتها من أجل تحريف مسار الثورة وإفسادها و”قلب مسار الاطراد في مرحلة ما بعد الثورة”، ويصف بن نبي الثورات التي حدثت في الحقبة الزمنية التي عاشها في منتصف القرن العشرين بأنها لم تؤثر في منظومة القيم والأفكار لدى الشعوب الثائرة، وغالبًا ما يتفاجأ الثوار– بعد تضحياتهم الجسيمة من أجل الثورة– أن أوضاعهم الاقتصادية والسياسية لم تتغير، بل ربما وجدوا أنفسهم في وضع أسوأ بكثير من الوضع السابق على الثورة، فهم قد توجهوا بثورتهم ابتداءً إلى ما يظنونه السبب في معاناتهم وهو شخص الطاغية وليس “ثقافة” الطاغية!
يلاحظ القارئ التأثير المباشر بأأفكار الفيلسوف الأمريكي "جون ديويjohn Dewey" على كتابات مالك بن نبي في سياق تأكيده على أهمية فاعلية الأفكار كشرط للنهوض الحضاري، فأهمية الفكرة لا تنبع من ذاتها وإنما تـُستمد من النتائج الملموسة التي نحصل عليها، ويجب أن تكون الفكرة قادرة على مواجهة مشاكل الحياة وإيجاد حلول عملية لها، والتفكير العلمي يتطلب القدرة على ربط الفكر بالعمل حيث تتم محاكمة الأفكار بناء على قدرتها على الإنتاج، وإذا كان john Dewey قد اكتفى فقط – لتحقيق فاعلية الأفكار– بشرطي المرونة والملائمة لمتطلبات الحياة البشرية، فإن مالك بن نبي قد شجب التمزق في الثقافة العربية الذي جعل فاعلية الأفكار رهينة بتعقيدات اجتماعية لا حصر لها!
فالمفاهيم الفكرية الأصيلة المستمدة من تراث الحضارة الإسلامية قد فقدت ارتباطها بنماذجها الأولى فغدت أفكارًا “ميـتة”، والمفاهيم الفكرية الواردة من الحضارة الغربية نـُزعت جذورها من تربتها الثقافية التي أنتجتها فتحولت إلى أفكار “مُـميتة”! ونتيجة لذلك يعاني المجتمع الإسلامي من تمرد النماذج المثالية لعالمه الثقافي الخاص به من ناحية، ومن انتقام الأفكار – بلغة مالك بن نبي – التي جلبها من الغرب دون مراعاة الشروط التي تحفظ قيمتها الاجتماعية من ناحية أخرى، وقد أورث ذلك تدهورًا في قيمة كل من الأفكار الموروثة والأفكار المستوردة، نتج عنه أفدح الضرر في نمو العالم الإسلامي أخلاقيًا وماديًا.
يشخص مالك بن نبي مشكلة الصراع الفكري في العالم الإسلامي بالاحتكاك العنيف للحضارة الغربية بالضمير الإسلامي وهو في أسوأ أحواله، فالأفكار الميتة الناتجة من إرثنا الاجتماعي قد تجاورت مع الأفكار المميتة المستعارة من الغرب، وهذا الصراع ساهم في تجسيد مظهري المأساة: أي الاستعمار والقابلية للاستعمار، بل ويرى أن الأفكار الميتة الموروثة من عصور الانحطاط الإسلامي تبدو أعظم فتكًا وأشد تدميرًا للمجتمعات الإسلامية لأنها– لتخلفها وتأخرها كأفكار بالية– قد فتحت الباب على مصراعيه لاستدعاء الأفكار المميتة من الخارج.
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى ما أورده المفكر الإيراني داريوش شايغان في كتابه (أوهام الهوية) حين ذكر أن الثقافات غير الغربية لم تتعرض للتحولات والصدمات الفكرية والوجودية التي تعرض لها الغرب بل تلقتها بالوكالة، وعندما عجزت عن الاشتباك “الواعي” مع تلك الحركة الديناميكية في تاريخ الغرب أصبحت “الأيدولوجيا” هي الأسلوب المتبع لمحاولة إحداث التغيير الثقافي المنشود، وهذا ما يفسر – في نظره – الدوغمائية العجيبة في الأيدولوجيات التي تتكيف بسرعة مع الروح التقليدية في الحضارات التي لا تستطيع أن تتعلم إلا إذا تأدلجت!. من دون أن تعرف في المقابل مرحلة العلم والتقنية الخاصة بعصر الأنوار، ولا مغامرة التاريخ، بحيث تبقى عصية على الحصانة التي توفرها الملكة النقدية القادمة من الغرب، مما أنتج رؤية انفصامية للذات ألقت بظلالها على مفهوم الهوية الثقافية التي تعرضت لتصدعات وانقسامات أنتجت تناقضات كبرى.
وبما أن اللغة ليست فقط وسيلة في التعبير وإنما هي نمط في التفكير؛ فقد كان من الطبيعي أن ينعكس عليها التمزق في عالم الأفكار وذلك في صورة ازدواجية اللغة في المؤسسات التعليمية والمهنية، بل تطور الأمر إلى انشقاق ثقافي في البنية الفكرية لبعض المجتمعات الإسلامية فأصبحت فيها نخبتان تتحدثان بلغتين مختلفتين وتمارسان التفكير باستخدام أنماط ثقافية متضادة.
يستنكر مالك بن نبي هذه الازدواجية المزمنة في العقل الإسلامي فيعقد مقارنة ساخرة بين جانبيه: فيجد في الضفة الأولى مجتمعًا مخدرًا يفرض عاداته وأفكاره المسبقة وخرافاته كتقاليد أصيلة، وفي الضفة الأخرى مجموعة من المفاهيم الغامضة ذات الدينامية المزيفة التي تستهدف تحطيم الذات! ويشدد المفكر الجزائري على أن العالم الثقافي الغربي ليس كله مميتًا ولكنه يتساءل عن السبب الذي يجعل مثقفينا ينجذبون – بوعي أو دون وعي – إلى العناصر المميتة في الثقافة الغربية.
وحتى يؤكد مالك بن نبي وجاهة تساؤله، استشهد باللقاء الحضاري بين الثقافة الغربية والمجتمع الياباني حيث كانت الدول الإسلامية معاصرة لبدايات النهضة اليابانية عام 1860، يقول مالك بن نبي: “في عام 1945 وفي المرحلة الأكثر تعاسة والأكثر مجدًا من الحرب العالمية الثانية أثبت الطيار الانتحاري (كاميكازي Kamikaze ) للعالم أن روح الساموراي لم تمت، بينما المجتمع الإسلامي وبالرغم من الجهود الحميدة التي خصه بها التاريخ تحت اسم (النهضة) فإنه بعد قرن من الزمان ليس غير مجتمع ذي نموذج متخلف، والواضح في النتيجة أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة لعلاقتنا بها.
وفي كتابه "شروط النهضة" يحاول مالك بن نبي تجاوز الرؤى الاختزالية للمصلحين السابقين، التي يعتبرها مسارات إصلاحية اهتمت بالعَرِضِ لا المَرَضِ. ومنها مسار جمال الدين الأفغاني الذي اهتم بالجانب السياسي، وكذلك مسار محمد عبده الذي كان يهدف إلى إصلاح العقيدة وغلب عليه الجانب الوعظي.
يرى بن نبي إن إشكالية الأنسان العربي ليست في مرضه، بل في عجزه عن تشخيصه تشخيصًا جيدًا، وإن استطاع معرفة الداء فإنه يتحير أين يطلب الدواء؟، فيسعى في طلبه من الحضارة الغربية؛ لذلك يؤكد بن نبي أن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعبٍ أن يفهم أو يحل مشكلته، ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها. وتسمى هذه العوامل بـ"العدة الدائمة" وهي الإنسان والتراب والزمن.
الإنسان هو العامل الأهم من عوامل بناء الحضارة عند مالك بن نبي، ويتعامل معه باعتباره مادة خام تحتاج إلى تشكيل وتجديد والتتوجيه حتى تستطيع أن تحمل الأفكار والرسالة منطلقًا من قول الله –عز وجل-:" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" الرعد11. ولم ينس مالك بن نبي أو يتناسى المرأة التي يجب أن تؤدي دورها كخادمة للحضارة، وملهمة لذوق الجمال والأخلاق. وتحرير هذا الإنسان يقتضي توجيهًا فكريًّا ينتشله من الجهل بمفهومه الدقيق، فقد كان للعرب قبل الإسلام شعرٌ رائع وأدب فذ ولكن أطلق عليهم "الجاهلية" لأن تراثهم الثقافي كان يخلو من كل عنصر خلاق أو فكر عميق. فإذا تحرر من الجهل يهذب فلا يتعالم ولا يتعاقل وذلك بالتوجيه الثقافي، لأن كلام المتعالم كما يراه بن نبي :" "ليس كتهتهتة الصبي فيها صبيانية وبراءة، فهو ليس متدرجًا في طريق التعلم كالصبي، وإنما تهتهته يتمثل فيها شيخوخة وداء عضال، فهو الصبى المزمن".
وعندما يتحرر من جهله وتعالمه يهذب بجميل الأخلاق وحميد الخصال، كما كان خلق المهاجرين والأنصار الذين تكون منهم المجتمع الإسلامي حيث مراتب الإيثار العالية "حتى كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه، بعد أن يطلقها له، لكي يبني بذلك أسرة". ويتوازى معه التوجيه الجمالي الذي لا تفتقر إليه الثقافة الإسلامية وإنما تضعه في مكانه المناسب في سلم القيم فـ"لا نرى أن الفن الإسلامي قد خلف آثارًا في التصوير كذلك الذي نشاهده في متاحف الحضارة الغربية لأن الرادع الأخلاقي في المجتمع الإسلامي لا يطلق العنان للفنان أن يعبر عن كل ألوان الجمال وعلى الخصوص المرأة العارية".
فإذا اجتمعت الفكرة مع زوال الجهل والتعالم وزرع قيم الجمال والأخلاق فلا ينقص هذا الإنسان سوى أن يتحرك وهو ما يسميه بـ"المنطق العملي" وذلك بتوجيه هذا الكم الهائل من السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية، وكذلك توجيه المال بتحريكه وتنشيطه وتحويل معناه الاجتماعي من أموال كاسدة إلى رأس مال متحرك ينشط الفكر والعمل، وكذلك توجيه قيم العمل الجماعي في الإنسان لصناعة الإنسان الكائن المتحضر.
والعامل الثاني هو "التراب" وهو مترتب على كفاءة العامل الأول وهو الإنسان الذي تبدو فاعليته في تحريك التراب الجامد إلى منجزٍ حضاري، فقيمة التراب مستمدة من قيمة مالكيه وحينما تكون الأمة مرتفعة وحضارتها متقدمة يكون التراب غالي القيمة والعكس. أما العامل الثالث فهو "الزمن"، فعند تحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا. هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، في تكوين المعاني والأشياء.
والجامع بين هذه العوامل الثلاث هو الفكرة الدينية التي تسيطر على روح الفرد والأمة وتتحكم في سيرها التاريخي، فالحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية والحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجًا. لذلك تقوم الفكرة الدينية عند بن نبي بإنشاء شبكة متينة من العلاقات الاجتماعية، فمتى كان الدين كانت الحضارة ومتى غاب الدين فلا حضارة ولا تجديد حضاري
ملاحظة :
المقال تلخيص لبحث قمة به في اطار ماستر الاسلام في الحاضر بجامعة غرناطة الاسبانية