يُسمح عادة في أطراف وهوامش العواصم وكبريات المدن بنوع من المظاهر والأنماط المعمارية وممارسة الأنشطة التجارية والإنتاجية لا يُسمح به في مراكزها التي يطبعها نوع من التخطيط والتنظيم والتنسيق المعماري لا يُسمح بغيره، بحيث تكون هذه المراكز مشغولة بالمباني الفخمة كالفنادق والبنوك وممثليات الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية.. وتضع سلطات هذه المدن عادة معايير يتوجب احترامها من طرف
كل من يريد إقامة مبنى جديد كاشتراط عدد من الطوابق لا يجب أن يقل عنه عدد طوابق المبنى، وكأن لا يكون المبنى شاذا بشكل صارخ عن نمط المباني الحديثة المجاورة من حيث الطراز المعماري ولون الطلاء..
ويغيب هذا التنسيق في مركز عاصمتنا كعاصمة نشأت في ظروف بنيوية واجتماعية وحضارية خاصة تجعل غياب هذا التنسيق مفهوما.. حيث بدأت العاصمة من الصفر وكان المتاح هو بناء مبان حكومية متواضعة تأوي مؤسسات ومرافق الدولة الناشئة، فلا بلدنا كان من البلدان التي خلَّف المستعمر بها بنى تحتية وعمرانا، ولا هو أيضا كان من تلك البلدان التي امتلكت ثروات ريعية كتلك التي انعكست عائداتها في تطور عمراني ومنشآتي في عواصم بلدان أخرى.. كما أدت محدودية إمكانيات الخصوصيين آنذاك إلى بناء بنايات متواضعة هي الأخرى في صورة بيوت سكنية أو محلات تجارية لا تزال حتى اليوم قائمة في وسط العاصمة لا يملكون إمكانيات لهدمها وتحويلها إلى عمارات عصرية، ولا يستطيعون كذلك بيعها لأنها تدر عليهم دخلا دائما من إيجارها..
اليوم بدأ مركز العاصمة يتغير وبدأت تبرز فيه بنايات حديثة، ولكن ليس بالسرعة التي تسمح بتغيير مركز العاصمة إلى النمط الذي عليه الحال في الكثير من عواصم العالم، كما أن الدولة اليوم منشغلة عن زخرفة وتنميق مركز العاصمة بالحاجات الماسة والمصاعب التي لا زال سكان الداخل يعانونها من فك عزلة ومياه وكهرباء وصحة وتعليم.. باعتبارها أولويات لا يمكن لمن يتحمل المسؤولية تجاهلها والانشغال عنها بغيرها. أما ما يقوم به الخصوصيون في المجال العمراني بمركز المدينة فيبدو أنه لا يخضع لمعايير عمرانية، حيث نجد بنايات الواضح منها أن أصحابها لم يبذلوا أي جهد في أن تأخذ شكلا معماريا على أسس فنية وجمالية، في غياب تام لدور الجهات الرسمية المفترض أنها مسؤولة عن ضبط تعمير وسط المدينة على أسس معمارية تراعي التناسق والانسجام في هذه البنايات.
ومن المعلوم أن مجتمعنا مجتمع محاكاة في الكثير من أوجه حياته، وما إن يقوم فرد من أفراده بنشاط تجاري أو استثماري حتى ينكب الآخرون على محاكاته..! واليوم، وضمن موجات المحاكاة هذه تغزو مركز العاصمة ظاهرة الأسواق، فأصبح كل من يمتلك قطعة أرضية على أحد الشوارع الرئيسية بمركز العاصمة يستغلها في بناء سوق بمحلات تطل على الشارع وأخرى تمتد إلى الخلف في سلسلة من المحلات يفصلها ممر داخلي ( الصورة )، حيث تحتل هذه الأسواق واجهة الشارع الرئيسي دون أن تضفي عليه أية قيمة معمارية أو طابع جمالي..!
وإذا استمر الحال على هذا النحو دون كبح فقريبا ستتحول كل الشوارع الرئيسية بالعاصمة إلى أسواق على هذا النمط المعماري الذي سيحول مستقبلا دون تطوير مركز المدينة، باعتبار هذه الأسواق استثمارات كلفت أصحابها مبالغ معتبرة، وسيمثل هدمها لإقامة مبان تليق بخصوصية وسط العاصمة خسارة وقد لا سيتجيبون لهدمها..
وسدا للطريق أمام هذه الظاهرة وكبحها وهي لا تزال في بداياتها، ينبغي تحديد شوارع مركز العاصمة كشارع جمال عبد الناصر، شارع المختار ولد داداه، شارع شارل ديكول، شارع جون كندي، شارع الملك فيصل، شارع الشيخ زايد، شارع الشيخ صباح، وشارع القدس وإعلانها شوارع تحت المراقبة الصارمة يُحذر فيها، وتحت أي ظرف، البناء إلا بإذن من السلطات المختصة وبمعايير وأنماط معمارية يُشترط فيها التناغم، وكذا إضفاء جانب جمالي وعمراني على هذه الشوارع، وترك أحياء المدينة الأخرى وأطرافها لهذه الفوضى المعمارية إذا كانت لا بد منها أو كانت لا تمكن مواجهتها..!