إذا كان الدين في جوهره إيمانا قلبيا فإنه لا ينفصل عن بعض الممارسات الشعائرية التي تشكل بدورها تجسيدا لتلك العقائد والتعاليم الدينية بشكل عام، والدين الإسلامي يمتاز عن غيره من الديانات السابقة عليه بكونه متأسسا على شريعة مفصلة واضحة المعالم هدفها تنظيم علاقات المسلمين فيما بينهم وتقنين سلوكهم وتنظيم معاملاتهم فيما بينهم من جهة، وتنظيم علاقتهم مع ربهم من جهة أخرى،
ولذلك كان تطبيق تعاليم هذه الشريعة هو العمود الفقري للدين، وأولوية الأولويات لدى المسلمين.
وقد كان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيه وتابع التابعين هو العصر الذهبي لتطبيق الشريعة بمعناه الواسع والتمسك بتعاليم الدين الإسلامي شبرا بشبر وذراعا بذراع، ولكن بعد أفول الخلافة الراشدية وتحول الخلافة إلى ملك متوارث وما تلا ذلك من صراعات داخلية واستعمار خارجي اجتاح الحضارة الإسلامية وخربها وشتت شمل المسلمين وفرق كلمتهم، وعصور الإنحطاط التي التي جثمت على صدر هذه الأمة ردحا طويلا من الزمن وأوجعت مخيالها الفكري وشوهته وأوهنت قواها، كل ذلك أدى إلى ابتعاد الناس عن المنابع الأصلية للدين في نقاوته الأمر الذي أدى إلى إرتباك في الرؤية الإسلامية الثاقبة للمجتمع المسلم في فهم الدين وتطبيق شعائره، ما استدعى ظهور بعض المصلحين الذين أرادوا الإضطلاع بإصلاح ديني وإجتماعي شامل انبثق عنه ظهور عدة تيارات فكرية اختلفت رؤاها حول كيفية الإصلاح ووسائله، فكان التيار الإصلاحي ممثلا في الوهابية والسلفية يعتقد أن عودة الأمة إلى ما كانت عليه الأمة في عصورها الذهبية هو الخطوة الأولى على الطريق نحو الإصلاح، على اعتبار أن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح أولها، وقد شكل هذان التياران تنويرا عظيما انعكس بالإيجاب على المجتمع الإسلامي آنذاك، والتيار العلماني الذي يرى أن المسلمين قد انحرفوا عن جادة الحق وتنكبوا طريق الدين الصحيح وأن الدين بحكم كونه اختلط بالخرافات والأساطير التي علقت به إبان عصور الانحطاط، ينبغي تحييده عن المجتمع وعزله عن ممارساته الاجتماعية والسياسية ومعاملاته الاقتصادية.
ولكن هذه الاختلافات البينة بين الطرحين سابقي الذكر قد بقيت مجرد تراشقات لفظية وأيديولوجيا جوفاء مجردة دون أن تلامس بشكل عميق هموم المجتمع، الأمر الذي تجلى في ظهور تعصب كلا الطرفين لرؤيته دون أن يكلف نفسه عناء مراجعة أطروحاته، ومنذ ذلك الوقت ظل التأكيد على تطبيق الشريعة ورفضها لازمتين تتجاذبهما الاتجاهات الفكرية سلبا وإيجابا، فاعتبرت الحركة الإسلامية تطبيق الشريعة هدفها الرئيسي الذي ينبغي أن تسعى الدول إلى تحقيقه.أما العلمانيون فقد كانوا يرون أنه لايمكن تصور قيام الدولة اليوم إلا بفصل الدين وإستقلاله عن ما يوجد في المجتمع من مذاهب وفرق وإثنيات وأن لا يفرض نمط معين من الدين والتدين على أي كان وتبقى مسألة التدين علاقة مباشرة بين العبد وربه.
إلا أن كلا الاتجاهين كانا ينطلقان في أغلب أحوالهما إما من تقزيم لفهم الشريعة يفضي إلى خطأ لا يغتفر، وقصور في التعاطي معه من خلال الفهم الذي يحصر تطبيق الشريعة في تنفيذ الحدود ويختزلها فيها، في حين أن الحدود هي مجرد روادع تأتي بعد تمثل تعاليم الشرع وتطبيقها سلوكيا وعمليا، ثم أن دعاة تطبيق الشريعة دائما ما يرتكبون خطأ فادحا حين يركزون جهودهم على الإسلام كما ورد في الكتاب والسنة ويتجاهلون الإسلام كما تجسد في التاريخ إذ يكتفون بالإسلام كنصوص ويغفلون الإسلام كواقع، كما يقول الدكتور فؤاد زكريا. أما العلمانيون فكان خطأهم أنهم ينطلقون في أغلبهم من رفض ضمني لتطبيق الشريعة، وحجتهم في ذلك أن الدين في عالمنا اليوم أضحى يعاني من آفة عظيمة تتمثل في جهل دعاته بفقه الواقع والتحجر في الفهم وعدم مسايرة العصر، وأن دينا هذه حال أصحابه لايصلح أن يكون قاعدة للحكم بين الناس.إلا أن العلمانيين قد وقعوا في مغالطة بينة حين ينتقدون الإسلاميين ويقعون في خطأ من جنس خطأهم بحكمهم على الإسلام من خلال علمائه وتصرفات معتنقيه، وحصرهم لتطبيق الشريعة في الحدود أيضا وإقفال الجانب الشعائري من تطبيق الشريعة الذي يعتبر جزء لا يتجزء منها.
ولما كانت تلك رؤيتي الإتجاهين بخصوص تطبيق الشريعة، فهل يمكن القول بناء على ذلك القول أن التيار العلماني كان رافضا لتطبيق الشريعة بكل أطيافه أم أن رفضهم كان موجها بالأساس إلى نمط معين من تطبيقها؟ وفي المقابل هل كان التقزيم هو دأب الحركة الإسلامية في تعاطيها مع تطبيق الشريعة؟ أم أن ثمة مفكرين منتمين للحركة الإسلامية قد صححوا الفهم وقوموا اعوجاجاته؟
دعونا نأخذ ممثلا عن كل هذين الإتجاهين للإجابة على على التساؤلات سابقة الذكر، فبخصوص التيار العلماني نجد الدكتور صادق جلال العظم يرى أن العلمانيين لايرفضون تطبيق الشريعة مجردة من كل إضافات بشرية، وإنما يرفضونها مضافة إلى ما يسميه "دين واقع الحال" الذي انحرف بموجبه المسلمون عن جادة الحق واستبد بهم الجهل والتحجر الفكري جراء التمسك به، ومن هذا جاء رفضهم للشريعة بوصفها تطبيقا لدين واقع الحال وليس رفضا للشريعة بالمطلق.
ومن خلال هذا نستنتج أن العلمانيين لا يرفضون تطبيق الشريعة إلا بالشروط التي ذكرنا سابقا.
أما بخصوص التيار الإسلامي فنجد الدكتور أحمد الريسوني في مقابلة أجراها معه الدكتور فريد الأنصاري يرى أن هناك فهم قاصر للشريعة يحصرها في الحدود والواقع أن الحدود تمثل جزء ضئيلا من الإسلام، لها أهمية خاصة ولها دلالة فقهية من حيث توجيهها إلى حفظ أسس المجتمع الإسلامي حفظا عقابيا أو عدميا كما يقول الأصوليون، وأن الشريعة ليست ما يطبق في المحاكم فقط، فشرع الله ليس محصورا في القانون الجنائي أو بعض مواد القانون الجنائي، بل شرع الله هو الصلاة والصيام والزكاة واجتناب المحرمات والإتيان بالواجبات وصلة الرحم وحسن التعامل ..إلخ، فشرع الله ليس هو دائما ماتقوم به الدولة وماتنفذه المحاكم وإنما الشريعة هي كل مايقوم به المسلم يبتغي من وراء عبادة الله.