في هذا الظرف الخاص الذي هبت فيه شعوب المنطقة العربية رافضة استمرار عقود الطغيان و"الفرعنة" و"النمردة" والالتفاف على الشرعية ونهب خيرات الأمة من قبل شرذمة من المتنفذين ومن يسير في فلكهم المشحون
–في هذه الظرفية التي نادي فيها البعض بضرورة المفاصلة بين العسكر والحكم وبالذات في بلادنا ..ونادى ذوو الضفة الأخرى أن المفاصلة مع السلطان وصلت حد المفاصلة مع القرآن..
في هذه الظرفية يتطلب الأمر مراجعة المفاهيم وتحديد دلالالتها التي غشيتها غاشية من الضبابية جراء الاستبداد بالفهم والحكم في هذه المنطقة ..كما يتوجب أكثر من أي وقت مضى تحديد مداليل التصورات وتنقية التصديقات التي صدأت بفعل قسرية الارتباط بينها وبين تصورات مغايرة لها .
ولعل من أهم تلك المفاهيم والتصورات –بالمعنى المنطقي- مفردتان خفيفتان على اللسان ثقيلان في الميزان وهما "الفتنة" "والثورة"
لقد دأبت الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة في منطقتنا العربية على وصم كل مشاكس أو معارض لطغياتها بما تشتهيه من ألقاب نابية تبدأ بالتخوين وتنتهي بالفتنة ..ولا يجد السلطان كبير عناء في فتاوى وتصريحات يدعي أصحابها أنهم سدنة "القرآن" ليحموا ظهره وينثروا مالذ وطاب من الحجج والبراهين على وجوب طاعة "الطاغية" والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يثير حفيظته وتمتلئ البيانات والتصريحات بالأدلة والشواهد المبتورة من سياقاتها والمنتزعة من فضاءاتها والمتخمة بالثناء والشكر لولي الأمر والتبرإ من خصومه وأعدائه والاستعاذة منهم كما يستعاذ من النار والدجال..وإعلان أن مفاصلة السلطان قد تجر لمفاصلة القرآن..فالسلطان إذن في هذه المعادلة هو رديف القرآن ..
ولعل مفردة "الفتنة" هي القاسم المشترك بين بيانات الأنظمة وفتاوي علمائهم وفقهائهم مما يتوجب التدقيق في هذه المفردة المثيرة.
وحري بهؤلاء أن يقفوا قليلا ليتأملوا ما يشع من الفتن بين ظهرانيهم ثم يباركونه أو يتجاهلونه وهم الذين يلعنهم الله واللاعنون إن كتموا ما يجب عليهم تبيينه ولهؤلاء نقول ..نعم لا للفتنة .لا للفتنة ولكن أليس:
من الفتنة حكم الناس أزمنة عديدة بالحديد والنار وإرغامهم على الطاعة والولاء لمن يسومهم سوء العذاب ويذبح أبناءهم ويستحي نساءهم تؤخذ البيعة لبعضهم وهو نطفة ثم تجدد له..ثم تجدد عندما يكون علقة ثم عندما يكسو اللحم عظامه.. وتستمر أناشيد البيعة والولاء ...فيما يلتجئ بعضهم إلى القوة العسكرية لفرض سلطته على من هم له كارهون ..ولا ترعوي هذه الأنظمة عن الفتك والتنكيل بمن تسول له نفسه أن يقول لا ولو في ( تشهده )
رغم النصوص الكثيرة الداعية لرفض الطاعة في معصية الخالق ورغم أن رسالات الله سبحانه كلها جاءت لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ..وأن المغزى الحقيقي لخلافة الله في الأرض هو عمارتها... ولا يمكن ذلك إلا بالعدل الذي به قامت السماوات والأرض وأمر به الله في أكثر من آية ..وبلغه رسله صلوات الله عليهم لقومهم ونحن الأمة الوسط شهداء على ذلك ..هذه كبرى الفتن.
- من الفتنة أن تتساوى بيانات وزارة الداخلية وفتاوى علماء السلطان الذي جعلوا القرآن ظهيرا للمجرمين والسنة الشريفة حامية للطواغيت والمسرفين –كبرت كلمة تخرج من أفواههم .
فيفتي الأزهر بجواز أو وجوب بناء الجدار الفولاذي ليحرم أطفال غزة ومرضى غزة وشيوخ غزة ومستضعفي غزة من الغذاء والدواء نصرة للكيان الصهيوني ..ويفتي علماء المملكة العربية السعودية أن ما جرى في مصر وتونس من الفتنة المحرمة والخروج على ولي الأمر فما أفلحوا في الصياغة والمبنى ولا وفقوا في المغزى والمعنى..لكن لليبيا شأن خاص إذ أن "العقيد" أساء الأدب ذات يوم على خادم الحرمين الشريفين لذلك ربما يهون الأمر ويتفهم كبار العلماء هناكم ضرورة رفض النظام الليبي!!
-أن تلوذ رابطة العلماء الموريتانيين ورابطة الأئمة بصمت أهل الكف و أعضاؤها يرون ما يجري من أحداث في تونس ومصر وليبيا ثم لا ينبسون حتى بالدعاء علنا ..وأن يتجاهل خطيب الجمعة ومفتي الديار هذه الأحداث انتظارا لما ستعلنه القيادة الرشيدة ورئيس العمل الإسلامي.
هذه مفردات قليلة من الفتن التي أيقظتها هذه الأنظمة وفقهاء الربط الأزلي بين السلطان والقرآن رغم ما يحث عليه القرآن من عدل وحرية..وما يمارسه السلطان من ظلم وعبودية لمن ولدتهم أمهاتهم أحرارا .فلم يسجل لهم التاريخ كلمة حق أمام سلطان جائر.. وهم يحفظون عن ظهر قلب الكثير من الآيات والأحاديث الصحيحة والقطعية الدلالة والثبوت في وجوب تغيير المنكر والوقوف في وجه السلطان الجائر والصدع بكلمة الحق والتحذير من الركون إلى الظالمين أو المجادلة عن الذين يختانون أنفسهم ..ثم يلهجون بعد ذلك بالتحذير من "الفتنة" وقد ولغوا فيها حتى أعمت قلوبهم.
الفتنة أن يلجأ النظام إلى البلطجية والفوضى لزعزعة البلاد حينما أدرك أن لحظة وداعه للكرسي قد دنت فكان القناصة جاهزين لقنص المدنيين الأبرياء ولم يسلم من ذلك الرضع والنساء والشيوخ رغم رفض الطرف الثائر اللجوء لنفس الأسلوب..أن يحرض النظام المهزوز والمهزوم المرتزقة والمجرمين وأعوانه من أمنه ومخابرته أن يعيثوا في الأرض فساد ما وسعهم الجهد وأن يستعين البلطجية بالخيل والجمال للبطش بالثوار المعتصمين في ميدان التحرير في مشهد مقرف ومخز ومخل .بل وأن تتناثر الأشلاء تحت عجلات السيارات أمام مرأى ومسمع العالم ..بأمر من السلطان وأعوان السلطان.
أن يقوم القذافي باستخدام الطائرات والدبابات ومختلف الأسلحة لحصد شباب وبنات وأطفال الشعب الليبي لمجرد أن قالوا له( لا ) ملء كرامتهم وعزتهم متأسيا بمشيخته الذين استن بسنتهم في موسكو وبكين والفلوجة وغزة ..
-أن يواجه النظام الموريتاني الاعتصامات والتظاهرات الشبابية التي أثبتت سلميتها وحضاريتها بالبطش والضرب واستخدام مسيلات الدموع وربما الدماء في مشهد يعيد أيام بدايات الثورة في تونس ثم مصر ثم ليبيا بعد أن فشل في إقناع أنصاره في حشد مظاهرات مضادة ..
أما الثورة فهي ذلك التحرك الشعبي الناضج الرافض للظلم والطغيان والداعي لإحقاق الحق وإنصاف المظلومين والأخذ على يد الظالم في أسلوب حضاري بهيج
الثورة هي :
-أن يرحل أكبر طغاة العصر جبروتا وتكبرا وأن تخرج الجماهير على قلب رجل واحد بعيدا عن أي تدمير أو إضرار بالممتلكات العامة والخاصة وإعلان العصيان المدني حتى تحقيق المطلب المنشود "الشعب يريد إسقاط النظام "..بعيدا عن أي عنف أو حمل للسلاح اللهم إلا أناشيد حماسية رغم هول ما تعرضوا له من تنكيل وتقتيل ..بل وأكثر من ذلك قام الثوار بتشكيل لجان شعبية لحماية الممتلكات العامة والخاصة حذار بطش ونهب بلطجية ومرتزقة الأنظمة الذين يبحثون عن شماعة "فتنة" يرفعونها في وجوه الثورة السلمية ..فما أفلحوا ولا أخمدوا ..كادوا ا كيدا... فكاد الله بهم
-الثورة أن يحل حزب التجمع الدستوري الذي كان أداة في يد النظام يحكم بها رقاب العباد ويبدد به ثروات البلاد.واسترجاع ما كان ينهبه من خيرات وأموال يوظفها لخدمة النظام وإزاء ذلك الاعتراف بحركة النهضة التي كانت أبرز المتضررين السياسيين من نظام هذا الحزب فقدمت الكثير من الضحايا والصابرين والصابرات ..فضلا عن تجميد ثروات ضخمة كان النظام الحاكم وحاشيته يستأثرون بها في الوقت الذي يعاني فيه الكثير من أبناء الشعب من العوز والحاجة.
-الثورة أن يقدم أبرز المجرمين في جهاز أمن الدولة المصرية للمحاكمة على ما اقترفوه في حق الشعب خلال عقود متعدد كانوا فيها سيوفا مسلطة على رقاب الشعب المصري .. وأن تجمد أرصدة النظام الذي كان يسعى لتحويل البلاد إلى مملكة "آل مبارك" لولا الثورة المباركة.والنظر في تقديمه للمحاكة العادلة حتى يلقى هو وأعوانه جزاء ما اقترفوا من هتك وفتك وبطش وغطش ..فانظر كيف كان عاقبة الظالمين.
الثورة أن يتداعي زيف الكتاب الأخضر الذي تبدى أحمر قان من الدماء الليبية نسأل الله لهم النصر والثبات.
-الثورة أن يطالب الكثير من علماء الأزهر الشريف والمفكرين إلى ضرورة استعادته لهيبته وترك اختيار رئيسه لأهله وبني حضنه حتى يكون بعيدا عن التوظيف السياسي الذي شوه سمعة بعض قادة هذه المؤسسة ليخرج رئيسه ذات مرة ليقول "أنا موظف في الدولة أتلقى منها الأوامر" وتناسى أن أوامر الله تعالى أسمى وأنبل من أوامر مرؤوسيه المفسدين وإن ظلت تصدح حناجر أزهرية شريفة ترفض فتاوى"الفتنة" التي تجره نحو مباركة كل ما يقرره "مبارك"الثورة أن تفتح السجون ليتنفس الهواء النقي آلاف مؤلفة من الشبان الأطهار الأخيار والشابات العفيفات المحصنات بعد سنوات من الجمر والمعاناة ..أن يعود إلى أرض الوطن من تقوست ظهورهم وهم يحلمون أن يروا وطنهم الذي أبعدوا منه جورا وهم في مقتبل العمر ..أن تلقي وتتعانق أجساد طالما باعدها وفرقها الظلم والطغيان ..أن يتمكن أولو ضحايا الأنظمة البائدة من الترحم على أمواتهم بعيدا عن أعين الخوف والرعب والمراقبة المستمرة.
هذه هي الثورة التي تنير دروبها الآيات البينات والأحاديث الصحيحة الصريحة وتاريخ السلف الصالح وتلك هي "الفتنة" التي يوقظها كل غداة حكامنا ويفقدها سنتها-بسكر السين- علماء ومفتون ومثقفون عبوا ونهلوا من ثروات ودماء هذه الأمة ثم لا يجدون حرجا في سحب هذه الفتنة على ثورة الشعوب عل وعسى ..ولكن هيهات ...فقد انتهى عهد التلبيس والتدجيل ..فليرحلوا ..وليرحلوا ..ليرحلوا...ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود.