قالو عن السياسة / محمد محمد الأمين

كثيرا ما أسمع هذه العبارة تتردّد على أُذُنايَ منذ صغري، وأنا لا أفهم مقصودها ولا ما ترمز له، لكن مع مرور الأيام -ولله الحمد- اتضح الأمر وانكشف الستار عن مقصودها، وتشكلت لدي رؤية توحي بأن المجتمع الموريتاني لديه موقف أو نظرة خاصة عن السياسة ليست كالنظرة التي لدى العالَم من حولنا...
والحديث عن تلك النظرة يستدعي قراءة المجتمع كله بدِقَّة وتأمُّلٍ، لكنني سأقتصر على ما امتزجتُ به من المجتمع مُبَيِّنا نظرتهم للسياسة 

ومقدما بعض الحلول التي أظنُّ أن بمقدورها أن تساهم في تصحيح تلك النظرة الخاطئة اتجاه السياسة...
لذا فإنني سأقسم المجتمع باعتبار نظرته للسياسة إلى ثلاثة أقسام: "العامة والخاصة وخاصة الخاصة"، والترتيب الذي أتَّبِعُه في التقسيم وضعته اعتمادا على الرصيد السياسي والعلمِيِّ لديهم.
1- العامة: ويندرج فيها نوعان من الناس:
_ من لا يفقه شيئا عن أساسيات الدين لا سيما السياسة، وهؤلاء ليسوا مخاطبين فهم لا يدرون مع من ولا لمن يكونون، بل تُديرهم شخصيات مصالح يُيَمِّمون أوجههم معهم حيث ما قصدوا.
_ من يفقه عن الدين لكنه عامِّي في مجال السياسة، والمثال الأقرب لهؤلاء هم الفقهاء في الحواضر أو "البدو" الذين يحتقرون السياسة ويقولون بحرمتها وهم مع ذلك يتركون أسرهم تصوت لفاجر يعينونه على تقليد منصب لا يستحقه كفاءة ولا تجربة، وإن كان الواجب علينا إحسان الظن بهم في سبب احتقارهم السياسة؛ لأنهم لم يروا السياسة الشرعية في هذه البلاد، وبالتالي أصدروا حكمهم بناءً على السياسة الموجودة عندنا، والتي تعتمد على مبدأ المراوغة والكذب بُغْية الحصول على المصالح الشخصية لا على مبدأ النهضة أو الإصلاح.
2- الخاصة: اعتبرناهم خاصة لأن لديهم رصيدا علميا يُخوِّل لهم تصحيح نظرة المجتمع الخاطئة اتجاه السياسة إن أرادوا، ويندرج ضمن هذا القسم نوعان من الناس:
_ أهل الخير من شتى الحركات أو الطرق التي تعتزل السياسة وتصفها بأنها سبب للخبث والتباغض والتنافر، وهم مع ذلك يصوتون كسابقيهم؛ لتجد التناقض جليّا، فتتساءل لماذا يدْعون لاعتزال السياسة وهم يصوتون؟
أليس التصويت لُبُّ السياسة الذي تُتَقَلَّدُ به المناصب؟
أوليس الإنسان مسؤولا عن صوته؟
تلك تساؤلات من بين أخرى ينبغي لهؤلاء الخيِّرين أن يُعِدُّوا لها جوابا.
_ طبقة السلاطين من العلماء والمثقفين:
وهؤلاء يفْقهون السياسة ويعلمون ما يترتب عليها من مصالح إن قُصِدَ بها الإصلاح، وما يترتب عليها من مفاسد إن قُصِدَ بها الفساد، لكنهم قدموا على ذلك كله عَرَضَ الدنيا، فباعوا ضمائرهم للسلطان، ليتقلّدوا وظيفة الدفاع عما يقوله، ولو أدى ذلك إلى إقرار الباطل، وإنكار الحق.
3_ خاصة الخاصة وهم قِلَّة:
فهم الذين فَهِمُوا الإسلام بشموليته، ولم يعتزلوا السياسة ولا الشؤون الدنيوية، ولم يعتزلوا الدعوة ولا إصلاح المجتمع؛ بل كانوا بين ذلك قواما.
وإذا ما أردنا أن نتعرض لعلاج النظرة الخاطئة التي لدى القسمين الأوليين، فإن ذلك ينبغي أن يكون وفق ما يلي:
أولا: علينا جميعا أن نُبَيِّنَ لأولئك الخَيِّرين بأن السياسة لا تعتمد على المراوغة ولا على الكذب، _فتلك قاعدة شاذة_، والشاذ لا يعتدُّ به، وسبب ذلك راجع إلى أن أغلب ممارسي السياسة في بلادنا هم ممن لا يفقهون من الفقه السياسي شيئا، أو من المتمصلحين الذي لا يسعون لغير مصالحهم الشخصية وللفساد والإفساد...
وعليه فلا يسمحوا بدور للعلماء ولا للمصلحين داخل مجال السياسة -وهم الأحق بها-، بل يَحْتَكِرونها ويأمرون مُرْجيفيهم بإذاعة الأساطير المُفْتراة ليُشَوِّشوا بها عليهم لدى الرأي العام؛ لذا يجب علينا أن نراجع تلك النظرة الخاطئة، وأن نعين المصلحين من العلماء وغيرهم من المثقفين الذين يسعون للإصلاح، بحيث تساعدهم تلك الإعانة في تَصَدُّر المشهد إن أرادوا وتقلُّد المناصب إن شاءوا...
ثانيا: المبادئ التي استوحاها البعض الآخر من الحركات أو الطرق واعتمد عليها في اعتزال السياسة مردودة؛ لأن السياسة هي قِوام الدين، والدين الإسلامي لا يتجزأ، ولا يمكن أن ندَع ما أمر به إسلامنا ونرفع شعارا مضمونه يقول: " دعوا ما للحكام للحكام وما لله لله"، فما الفرق بيننا وبين من كان يقول: دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله؟
والعجيب أننا في هذا الشهر كنا في قاعة كبيرة مملوءة من المنتسبين لفقه الشريعة فتقدم أمامنا أحد الفقهاء البارزين في البلد قائلا بكل جرأة واستهزاء بمن أمامه: لدي فلسفة ترعرعت عليها وأنا مرافق للعلامة الحاج بن فحفو، ولا زلت عليها إلى أن ألقى ربي، وهي أن السلطان إذا كان ظالما أو مستبدا سأكون دوما في صفه، وأردف قائلا المهم "حد يلصگ"، السيد الفقيه الصگ، لكن التاريخ لا يرحم، والأجيال التي أمامك هي أبناء الغد وقادته إن أحياهم الله.
ولست في هذا المقال بصدد إثارة إشكالية "الدين والسياسة" فيكفي ما أورده القرضاوي وسعد الدين العثماني في كتابيهما عن الموضوع، وما أشرت له سابقا في مقال نشرته بعنوان: "إياكم ودعاة السلاطين"، وقد بيَّنت فيه أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لم تكن من أجل إقامة أحد أركان الإسلام الخمسة لعدم وجود مانع شرعي، بل كانت من أجل إقامة الدولة الإسلامية...
فلذا لا فصل للدين عن السياسة ولا مجال لاعتزالهما، وترك حَبْلهما لمن قد لا يكون يفقه فرض عَيْنه، لا سيما واقع أمة بأكملها.
وصدق الغزالي لعمري رحمه الله حين قال: "الدين والسياسة توأمان".
وأما طاعة ولي الأمر التي قد يكون الفقيه يبني عليها مقولته الآنفة، فيكفينا من التفقه في مفهومها أن نفهم من هم ولاة الأمور الذين ورد ذكرهم في القرآن لنطيعهم؟
يقول الجصاص والشاطبي بأن المراد بأولي الأمر هم: "العلماء والحكام"
وعليه فلا مجال لاستغلال السياسة وشؤون الحكم من طرف الحكام، وإقصاء العلماء والمصلحين من ذلك كله.
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن معلقا على قوله تعالى: ((يَأَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ...)).
بأن معنى "منكم" أي من المؤمنين، والمؤمنون تقدمت صفاتهم قبل الآية، فهم يؤدون الأمانة ويحكمون بين الناس بالعدل لا بالظلم أو الجور...، فإذا توفرت تلك الصفات في ولي الأمر فهو من المؤمنين، وإذا لم تتوفر فيه فلا مجال له بين المؤمنين...
كما يشير رحمه الله في هذا الصدد إلى ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن الآية ورد فيها لفظ الطاعة عند ذكر الله ورسوله، ولم يرد فيها لفظ الطاعة عند ذكر أولي الأمر...
لأن طاعة الله واجبة وطاعة رسوله كذلك، وأما أولوا الأمر فلا تجب طاعتهم إلا إذا توفرت فيهم الصفات التي تسمح لهم بأن ينتسبوا للمؤمنيين، ليتحقق فيهم المراد من "منكم".
فهل سندرك الأمر ونبادر إلى تصحيح النظرة الخاطئة التي لدى مجتمعنا اتجاه السياسة، لنسير في النهج القويم؟
أم سنتمادى في غَيِّنَا غير مُبالين بما يجري من حولنا، ولا بما يفعل لنا وبنا
ولله الأمر من قبل ومن بعد

22. يونيو 2018 - 16:42

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا