يا علمائنا يا ملح أمتنا إن العلم نور والدين هداية وسلوك يحبب الإسلام والإيمان للناس ويزينه في قلوبهم، ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وقديما قالت حكم أمثالنا الشعبية"لعياط إلى كام من راص الكديه لهروب أعلين"، ولعلها عين الموعظة والحكمة الواردة في المثل العربي: إذا كان رب البيت للدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص، فإن كان الفساد المالي والإداري في مؤسسات العلماء والأئمة،
المفروض فيهم أنهم أهل العفة والاستقامة، والهداية والصلاح، فأين المخرج والمهرب !!.
سادتي مدعي العلم والفقه وتمثيل الأئمة والعلماء، من المسلم به علميا والمستفاد من نصوص الوحيين الكتاب والسنة أن الإسلام لا يعرف مفهوم الكهنوت ورجال الدين، وأن هيئات العلماء وروابط الأئمة والعلماء وما تفرع عن ذلك من تشكيلات، هي مسميات وهيئات مستحدثة في حياتنا وأنماط التدين عندنا، وتقليدا ومضاهاة لغيرنا من أهل الديانات الأخرى، واستجابة لخدمة الأنظمة الفاسدة عندنا، تضليلا للجمهور وتحريفا للدين والأكل والاسترزاق باسمه، والله يقول عن الذين"{..اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون} .
نعم لقد ظل الإسلام وعبر تاريخه المبارك يخرج العلماء ويربى العقول ويزكي النفوس، ويمد الحياة بالنماذج العلمية والفقهية الرائعة، والتي يحسب المرء أنها جُبلت من طينة غير الطينة التي جبل منها سائر الخلق وأفراد المجتمع الإنساني، نماذج من العلماء الفقهاء آمنت بالله الواحد الأحد، وأفردته بالألوهية وخصته بالعبودية والطاعة الممتثلة، ولم تجعل له ندا ولا شريكا في الخلق والأمر، ردوا إليه الأمر كله، ولم يروا في غير شرعته طريقا للهداية، ولا أسوة في الحياة غير نبي الإسلام محمد- صلى الله عليه وسلم، فعاشوا للحق، وتمسكوا به، وصبروا عليه، وجاهدوا الباطل، ونهوا عنه، وتحملوا تكاليف العلم و الهداية العسيرة بتسليم وبرضا وطمأنينة؛ لأنهم أمضوا الصفقة وربحوا البيع ولم يطلبوا الإقالة، وهم يعلمون حق العلم أن الله يقول وقوله الحق، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}. ويعلمون أن الله جل في علاه حذر وأنذر وتوعد بالخيبة والخسارة في الدنيا والعذاب في الآخرة ل:{ الذين يكتبون الكتاب بأيدهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم من ما كتبت أيديهم وويل لهم من ما يكسبون}.
فويل لهم من ما يكتبون وويل لهم من ما يكسبون من جاه ومال وحظوة على حساب القيم والدين، وخذلان الحق ونصرة الباطل، تماما كحال الذين خسروا الدنيا والآخرة من بعض علماء وأئمة الهيئات والروابط المتهمين أصلا في دينهم، جهلا وتحريفا وتزويرا وبيعا لسلطان الجبت والطاغوت، واليوم يزدادون تهمة على تهمة في ذممهم المالية وأماناتهم الإدارية، وهم بذلك يقدمون المثل السيئ ويعطون المبرر ويفسحون المجال لكل المتربصين بالدين والشانئين لقيمه، عكس ما يطلب منهم الحق أن يفعلوا: يحببون الإيمان والدين للناس ويزينونه في قلوبهم، ويكرهون إليهم الكفر والفسوق والعصيان، بما يقدمونه من قيم وأخلاق الإسلام: من صدق وإخلاص وطهر وعفة وإيثار، والمتأمل في تاريخ ومواقف العلماء الصادقين في تاريخ الأمة، في هذه القضايا، وفي العلاقة بالسلاطين والمجيء إليهم وغشيان مجالسهم، إن كان من أنصاف المتعلمين وقليلي الفقه، فإنه قد تصيبه الدهشة بادئ الأمر، وقد يشعر بنوع من التخبط في المنهج والرؤية وقد يستريب من بعض المواقف لبعض العلماء التي تبدو ظاهرا متباينة نحو الحكام وما ذاك إلا لخفاء بعض القواعد المهمة والتي كانت تحكم وتضبط عمل أهل العلم، وتصوغ مواقفهم، وتصقل تجاربهم، فأبقتها الأيام، وسجلها التاريخ، وتقبلها الحكام، ودفعتهم للتغير والإصلاح في أحيان كثيرة عكس ما نرى اليوم، .
قيل للإمام مالك- رحمه الله-:"إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون ؟ فقال : يرحمك الله، فأين المكلّم بالحق"، تلكم هي وظيفة العلماء، أن يقول الحق لمن يدخلون عليهم من الحكام يا أهل الهيئات والروابط، وفي الحقيقة أن الأصل في حق عامة المتفقهين اليوم هوا لحذر والابتعاد لقول النبي- صلى الله عليه وسلم- فيما أخرج الترمذي وصححه، والنسائي، والحاكم وصححه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم، ولم يعنهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وارد علي الحوض) .
والإمام مالك- رحمه الله- يا سادتي هو من قابل الحاكم والخليفة العام-رئيس الدولة-هارون الرشيد بكلمته المشهورة (لا تكن أول من وضع العلم فيضعك الله).
نعم يا فقهاء البلاط والطامعين في عطاء السلطان، لما قدم هارون الرشيد المدينة، وجه البر مكي إلى مالك، وقال له: احمل إلىّ الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك، فقال مالك للبر مكي:" أقرئه السلام وقل له:"إن العلم يُزار ولا يزور" فرجع البر مكي إلى هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين أيبلغ أهل العراق إنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك ! أعزم عليه حتى يأتيك، فأرسل إليه فقال: قل له يا أمير المؤمنين لا تكن أول من وضع العلم فيضّيعك الله " .
وهذا القول والموقف إن دل فإنه يدل على فقه عظيم تشبع به الإمام مالك- رحمه الله- في هذه المسألة حيث أنه ممن لا يرى حرجاً في الدخول على السلاطين إذا تحققت المصلحة في ذلك إحقاقاً للحق، لكن لما كان هذا الدخول دعوة من السلطان فيها إذلال للعلم وأهله، أراد الإمام مالك أن يعطي درساً ليس لهارون فحسب بل لكل إنسان تعمم بالعلم واحتمى بالسنة، فهل لكم يا فقهاء وأئمة من إتباع واقتداء بمالك في هذا .
من قضاء الله وتقديره وسننه الماضية في الخلق، أن لكل قوم هاد يهدي للحق أو للباطل، وأن يوجد من بين القادة والمتصدرين للزعامة من يلبس لبوس الدين، ويدعي الحفاظ على الصالح العام وحماية الأمة من دعاية القلة المغرر بها والخارجة عن سياسة الملك وأوامر السلطان، الذي يقول:{ ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}، وما موقف البر مكي القديم إلا تعبير عن مواقف كل البرامكة القديم منهم والجديد المتجسد في وزراء الشؤون الدينية والمفتين، والقوم هم القوم، فالبرمكي ذلك ما هو نموذج سياسي خبيث لأساليب الزعامة البرمكية الإسلامية التي تريد التفاف الأمة حولها، فالبرمكية شخوص ونماذج ونظريات ثابتة في واقع الصراع بين تيار الهداية والإصلاح الإسلامي وكل التيارات المنحرفة، والتاريخ يقول إن كل برمكي جديد يتلهف إلى لحظة يكون فيها الزعيم القائد انعكاس لفهمه ونمط تدينه، وهنا فمالنا من قول نقوله له للحكام أصدق ولا أبلغ، ومن باب النصيحة تذكيرا وتحذيرا، من قول المعصوم- صلى الله عليه وسلم- فيما ورد عند البخاري من حديث أبي سعيد وأبي هريرة- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:"ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحضه عليه ، والمعصوم من عصمه الله " .
ونقول لفقهاء الهيئات وأئمة الروابط إن الدخول على السلاطين، وموالاتهم والطمع في عطائهم والقرب منهم هو في حد ذاته بلاء العظيم وابتلاء الشديد، والذي تتنزل الآثار المرهبة في الدخول على السلاطين، والتي جمع منها وساق الإمام السيوطي رحمه الله ( ت: 911هـ ) في كتابه:" ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين"يعتبر من هذا الباب، والذي منه ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:" من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً ".
قال ابن المبارك- رحمه الله-:"من بخل بالعلم ابتلي بثلاث:إ ما موت يذهب علمه، وإما ينسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه" وقال أبو حازم ( سلمة بن دينار):" إن خير الأمراء من أحب العلماء، وأن شر العلماء من أحب الأمراء"، وقال علامة الأندلس من أفقه الناس بأخلاق الملوك وصفاتهم، ابن حزم وهو ينصح العالم في رسالته(مراتب العلوم):"وإن ابتلي بصحبة سلطان فقد ابتلي بعظيم البلايا، وعرض للخطر الشنيع في ذهاب دينه وذهاب نفسه، وشغل باله، وترادف همومه.." .
من هنا يكون السؤال واردا عن حقيقة العلماء منهم وهل فعلا عندنا علماء، أو فاشلون أدعياء، الله جل وعلا يخبرنا أن العلماء هم في الحقيقة من عرف الله ويخشونه حق خشيته، قال جل في علاه:{...ذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء}، والخشية هي أن لا يراك الله حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك، وفي قيمنا وثقافتنا أن العلماء هم من جلسوا لتعليم الناس وتدريسهم العلم، وقاموا بالإنفاق على المتعلمين، وألفوا المؤلفات في فنون الشريعة ونشروها بين الناس، ولا أخال الكثير من المنتسبين لهيئات العلماء وروابط الأئمة عندنا هم من تتحقق فيه تلك الأوصاف المعايير وتتوفر فيه تلك الشروط والضوابط ، فلم يبق إلا النوع الثاني من المزورين والمتفيهقين:{ الذين يلون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله}ويقول وقوله الحق:{إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.