دائما ما تلجأ الحكومات إلى الإقتراض لتمويل العملية الإقتصادية ودفع عجلة النمو في ظل محدودية الموارد من جهة وضرورة وفاء تلك الحكومات بإلتزاماتها التنموية من جهة أخرى.
تنقسم الديون حسب تاريخ إستحقاقها إلى ديون قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد ، بالإضافة إلى الديون الداخلية و الخارجية والتي تختلف هي الأخرى حسب الجهات الدائنة و العملة التي تم من خلالها إصدار تلك الديون.
هنالك الكثير من العوامل التي تحرك الدول خاصة النامية منها إلى التوسع في الإقتراض مثل إنخفاض الفوائد على القروض و الحاجة إلى مصادر تمويل للخطط و الإستراتجيات التنموية التي يتم إعتمادها بالإضافة إلى التقارير الأولية للشركات المتعددة الجنسيات حول الإكتشافات الجديدة.
وسنحاول التركيز على العاملين الأخيرين لنقف على العلاقة المباشرة والتاريخية بينهما وارتفاع المديونية لدى بلد مثل موريتانيا.
عندما تصدر الشركات المتعددة الجنسيات تقاريررها الأولية حول إكتشافات جديدة في بلد مثل موريتانيا فإن أسهم تلك الشركات ترتفع في البورصات العالمية ، ويتحسن التصنيف الإئتماني ( قدرة البلد على السداد) لدى موريتانيا من خلال إنخفاض الفوائد على ديونها حيث أن البلد وكما تفيد تلك التقارير سيصبح قادر على السداد نظرا لتلك الإكتشافات الجديدة ، وهو مايعني أن موريتانيا ستدخل أسواق الدين العالمية والمحلية بمزيد من الثقة نتيجة لتلك التقارير والتي على أساسها سيشتري المستثمرون الديون الموريتانية من خلال شراء أوذنات وسندات خزانتها أو من خلال إقراضها مباشرة وبفوائدة معلومة.
ولذالك فإن كل من الشركات المتعددة الجنسيات وموريتانيا سيستفيدون من تلك التقارير: حيث أن الشركات ستجني أرباح من البورصات العالمية نتيجة لإرتفاع أسهمها بينما سيصبح الإقتراض أسهل لموريتانيا بالمقارنة مع الفترات الماضية وهو ماسيسمح لها بالولوج إلى مصادر للتمويل هي في أمس الحاجة إليها لتحقيق أهداف خططها و إستراتجياتها التنموية خاصة فيما يتعلق بخفض معدلات الفقر من خلال رفع معدلات النمو وزيادة مستوى النفاذ إلى الخدمات الأساسية.
وبما أن التقارير الأولية دائما ما تتحدث عن إكتشافات متوقعة وليست مؤكدة فإن الشركات ستجني أرباح مباشرة من البورصات العالمية ليبقى المستثمرون في أسهم تلك الشركات ونظرائهم في الديون الموريتانية مرتبطون بما ستؤول إليه تلك التقارير حيث أن المستثمر في أسهم تلك الشركات ينتظر أن تكون تلك التقارير الأولية والتي إشترى على أساسها الأسهم لتصبح حقيقية ومؤكدة لتترفع الأسهم فيما بعد و تتحقق الأرباح في المقابل ، بينما ينتظر المستثمر في الديون الموريتانية أيضا تلك التقارير والتوقعات والتي أقرض على أساسها الحكومة الموريتانية لتصبح حقيقية ومؤكدة حتى يستطيع هو الآخر إسترجاع أمواله وتحقيق الأرباح من خلال الفوائد المتفق عليهامسبقا.
عندما تصل عمليات تلك الشركات إلى مراحل متقدمة تتكشف حقيقة تلك الإكتشافات إما أن تكون حقيقية ومؤكدة وحينها ستتحقق الأرباح للمستثمرين في أسهم تلك الشركات والديون الموريتانية ( المقرضين) وستتعزز الثقة في الإقتصاد الموريتاني مما سيساعده في بلوغ أهدافه التنموية ، وقد تكون تلك الإكتشافات دون التوقعات وهو مايعني أن أسهم تلك الشركات في البورصات العالمية ستتراجع ليخسر المستثمر في تلك الأسهم ، بينما ستصبح موريتانيا عاجزة عن سداد ديونها التي إقترضتها على أساس تلك التقارير الأولية ليجد المستثمر في تلك الديون نفسه عاجزا عن استرجاع ديونه لدى الحكومة الموريتانية وهو ما قد يدخل الإقتصاد الموريتاني في اختلالات هيكلية عندما يصبح البلد غير قادر على سداد ديونه وهو ما يعني الإفلاس بشكل مباشر لتصبح أهداف الخطط و الإستراتجيات التنموية التي تم رسمها على أساس تلك التقارير لايمكن تحقيقها وهو ما قد يستدعي إعادة النظر في السياسات الإقتصادية.
بالأمس شركة وودسايد والنفط والإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر.
في بداية الألفية الحالية وبالضبط في صبيحة 13 مايو 2001 أعلنت شركة وودسايد من خلال تقارير أولية عن إكتشافات كبيرة للنفط والغاز في حقل شنقيط 1 وهو ماتزامن مع بداية إعتماد الحكومة الموريتانية خطة تنموية طويلة الأمد وهي الإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر ألممتد للفترة مابين 2001 - 2015.
وكما أشرنا سابقا تحركت مستويات الدين العام للبلد في تلك السنوات نتيجة لتلك التقارير واعتماد الحكومة الموريتانية للتو الإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر وهو خطة تنموية طويلة الأمد تتطلب إعادة توجيه المزيد ثم المزيد من الموارد.
ومن أجل ذالك كان لابد من تسويق تلك الإكتشافات في البورصات العالمية حتى يتحسن التصنيف الإئتماني للبد وتنخفض نتيجة لذالك الفوائد على قروضه حينها سيتم الحصول على جزء مهم من الموارد التي تتطلبها خطة تنموية بحجم الإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر لتواصل المديونية ارتفاعها في السنوات الأولى لتلك الخطة حتى وصلت إلى مستويات %200 من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2006.
توقعت وودسايد من خلال تقاريرها الأولية بأن حقول النفط في موريتانيا ستكون قادرة على إنتاج كميات معتبرة من النفط قبل أن يدخل ذالك الإنتاج في مسار هابط من 75 ألف برميل يوميا إلى حدود 22 ألف برميل في المتوسط نهاية 2006 و 15 برميل في العام 2007 مماجعل شركة ودسايد تتخارج فيما بعد من موريتانيا تحت ذريعة أن الكميات المنتجة ليست بالتجارية والتي واصلت هي الأخرى إنخفاضهالتترواح اليوم مابين 4 و 5 آلاف برميل يوميا.
بمجرد أن جاءت كميات الإنتاج دون التوقعات تم التوقيع في يونيو 2006 على الإتفاق القاضي بتخارج شركة وودسايد من موريتانيا لتترك الإقتصاد الموريتاني مثقلا بديون عاجز عن سدادها ليتبخر الأمل المرسوم على تلك الإكتشافات في التحسين من الملاءة المالية للبلد حتى يستطيع الوفاء بديونه ، وخلق التوازنات الإقتصادية المطلوبة وتحقيق الأهداف المعلنة للإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر والتي راهنت بشكل كبير على تلك الإكتشافات.
في نفس العام من تخارج شركة وودسايد من موريتانيا لم يعد أمام الحكومة الموريتانية سوى البحث عن برنامج إنقاذ للإقتصاد يتم بموجبه شطب جزء من تلك الديون وإعادة جدولة الجزء الآخر مقابل إلتزامها بتنفيذ برامج إصلاحية للإقتصاد إنطلاقا من مبدأالشفافية في الأرقام كما تشترط الجهات المانحة وكان لموريتانيا ذالك حين
تم شطب 830 مليون دولار فيما تم إعادة جدولة ديون الكويت لمدة 40 سنة منها 16 سنة إعفاءات وهو ما سمح بعودة الإقتصاد الموريتاني إلى المسار الصحيح خاصة أن هذه العملية جاءت كما ذكرنا آنفا في السنوات الأولى من إعتماد موريتانياالإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر وهو ماسمح للحكومة الموريتانية بتوفير وإعادة توجيه جزء مهم من الموارد هي في أمس الحاجة إليها.
وقد إستفادت موريتانيا من ذالك البرنامج ضمن خطة إنقاذ لبعض من الدول الأكثر فقرا تم تمويلها من طرف مجموعة الدول الصناعية الكبرى والتي تكفلت بدفع مايناهز 37 مليار دولار للجهات الدائنة لإنقاذ 17 إقتصاد دولة إفريقية فقيرة ، وكأن تلك الدول الصناعية أرادت أن تتنازل عن جزء من عوائدها مقابل حماية الجزء الآخر حتى لاتخسر أسواق تقليدية تحتاجها لإبقاء مؤشراتها الإقتصادية عند المستويات المطلوبة.
اليوم شركة كوزموس أنرجي والغاز وإستراتجية النمو المتسارع والرفاه المشترك.
بعدتراجع أثر الإكتشافات النفطية المتوقعة على الأهداف المرسومة للإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر وعلى الرغم من إنخفاض الفقر من %51 سنة 2001 إلى %31 سنة 2013 كما تشير التقارير النهائية للإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر إلا أنه كان بالإمكان أفضل من ماكان لو جاء تلك الإكتشافات النفطية مطابقة لتوقعاتها.
في العشر سنوات الأخيرة وبعد شطب المديونية سنة 2006 و إنخفاض الفوائد على القروض عالميا نتيجة للأزمة المالية سنة 2008 ، جاءت تقارير لشركة كوسموس أنرجي لتفيد بإكتشاف إحتياطيات معتبرة من الغاز في المناطق الحدودية بين موريتانيا والسينغال حيث تقدر تلك الإكتشافات ب 25 ترليون قدم مكعب بالإضافة إلى إكتشافات أخرى في الأراضي الموريتانية لتعمل هذه العوامل مجتمعة على زيادة شهية الحكومة الموريتانية للإقتراض مدعومة في ذالك وبشكل مباشر بقرب إنتهاء الفترة المحددة للإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر وهوما خلق ضغوط إضافية على الحكومة الموريتانية للبحث عن مصادرتمويل إضافية حتى تستطيع تحقيق أهداف تلك الخطة التنموية في المجال الزمني المحدد لها ، وبذالك يمكنها الحصول على دعم شركائها في التنمية.
ومن أجل ذالك بدأ تسويق إكتشافات الغاز الحديثة كما جرت العادة في الأسواق الدولية خلال السنوات الأخيرة للإطار الإستراتيجي لمكافحة الفقر قبل الدخول في إستراتجية النمو المتسارع والرفاه المشترك والتي ترتبط هي الأخرى و إلى حد كبير بما ستؤول إليه تلك الإكتشافات.
اليوم وبعد أن وصلت تلك الإكتشافات إلى مراحل متقدمة حيث من المتوقع أن تبدأ عمليات الإستغلال سنة 2021 هاهو الحديث عن إرتفاع المديونية يعود من جديد بعد العام 2006 حيث باتت تشكل تلك الديون مايقارب %100 من الناتج المحلي الإجمالي وهو ماأدى ببعض الهيئات الدولية إلى دق ناقوس الخطر خاصة أن الحكومة إعتمدت للتو إستراتجية النمو المتسارع والرفاه المشترك الممتدة للفترة مابين 2015- 2030 وهوما يطرح التساؤل التالي : كيف للحكومة أن تدخل في خطة تنموية بهذ الحجم في ظل هذه المديونية المرتفعة؟
من الواضح أن الحكومة الموريتانية تراهن على جدولة أقساط دينها ( مايدفع سنويا) من جهة و على تلك الإكتشافات لسداد ديونيها في المستقبل وتحقيق التوازنات الإقتصاديات المطلوبة مثل رفع معدل النمو وخفض البطالة واستقرار الأسعار وتحقيق الأهداف المعلنة للإستراتجية النمو المتسارع والرفاه المشترك ، لكن الأمر يبقى مرهون بما ستؤول إليه تلك الإكتشافات حتى نتجنب سيناريو شركة وودسايد 2006 حيث : شركة تبيع رخصها لتتخارج من البلد وإقتصاد مهدد بالإفلاس ، ومعدلات ديون و تضخم هي الأعلى في تاريخ البلد ، وخطط وإستراتجيات تنموية تذهب إلى المجهول ، وحكومة في المقابل تبحث عن برامج إنقاذ بعد ما جاءت كميات الإنتاج دون التوقعات والتي تم على أساسها إقتراض تلك الأموال.
هل إستفدنا من تجاربنا السابقة لكي لايتكرر ماحدث مع وودسايد؟ ولكي تكون النتائج في الخطة التنموية الأخيرة أفضل من سابقتها؟
تقول الحكومة نعم إستفدنا وبنود الإتفاق مع كوزموس وBp أفضل بكثير من تلك الموقعة مع وودسايد وتازيازت خاصة فيما يتعلق بتقاسم الإنتاج وهذ أمر مفرح ويدعو إلى الإطمئنان والتفاؤل ، وهو مايقودنا إلى تساؤل آخر هل كانت وتيرة الإقتراض لتمويل هذه الجولة الجديدة من صراعنا و التنمية تتماشى وحقيقة تلك الإكتشافات؟
أمم ول إنفع : مدون إقتصادي