موسم الكبريت والنار..!؟ / المختار السالم

altاسمحوا لي هذه المرة أن أتحدث بهويتي الحقيقية كشاعر، لا كصحفي، ولا كمحلل إخباري، ولا بأي من الأقنعة التي تزيد الهوية وضوحا.. الأقنعة التي يضعها الآن جميع الشركاء السياسيين في البلد لإخفاء حالتهم النفسية خوفا من التعري على الواقع..

ثمة "قصيدة" تتغنى بالربيع ينشدها صعاليك المعارضة، وهي مليئة بعبارات: الميدان.. الثورة.. الرحيل.. الحرية.. السقوط.. الهاوية.. البلد.. المرأة والشباب.

وثمة "قصيدة" أخرى يغنيها "الحزب الميكانيكي الحاكم"، وهي مليئة ب"الزحافات" و"العلل" و"المعلول".. وليسمح لنا الحزب الحاكم، فقد تعلمنا منه لغة الخشب، والقماءة، والتردي، و"المبايعة على الموت"، أي "الموت الوظيفي للحق والإحساس".. نعم علمنا الحزب الحاكم كل ذلك وغيره، فهو شاعر مجيد، لكنه من النوع الذي "إذا شعر مات"، كما يقولون.. ومن النوع الذي لا يستسيغ المديح إلا في المرقعات العامة...

يجيد صعاليك الحزب الحاكم قرض التشفي، فهذا وزير يتحدث عن فرار زعماء المعارضة مع أول سيارة إطفاء، وهذه وزيرة الشؤون الاجتماعية مولاتي بنت المختار تؤكد أن ما لم يأخذ بالانتخابات مستحيل.. غير صحيح سيدتي الوزيرة.. فقد حصلت أنا جميلاتي من دون انتخابات، وهن راضيات مرضيات لأنني غزلت جدائلهم على أنغام الشعر، وحملت أسماءهن العطرية على أجنحة النسيم.. وجعلت كل العشيقات مواطنات في جمهورية الشمس التي يحكمها الشعر..

قد تقول وزيرة المرأة إنها عينت لترقية النساء، النساء جميلات بطبعهن والجمال هو الرقيّ بذاته.. ولهذا فهي إذن وزيرة تعاني من البطالة، ومن هنا يفهم "غزلها" الدائم بالحزب الحاكم...

وأنا أشهدكم بشجاعة وزيرة المرأة، لأن بإمكانها التغني بهذا الكائن الحزبي الذي ولد مشوها، كأي مسخ سياسي..

وليس أشجع منها في هذا الاتجاه سوى وزير التنمية الريفية ولد امبارك، الذي استبشر بقدومه سكان الريف ظنا منهم أنه يحمل لهم أنباء المطر، وقبل ذلك أن لديه ما يغيثهم من أبشع لوحات الجفاف التي ترسم بجثث ماشيتهم، بعد أن قضي على أحلامهم بلقمة كريمة عيش بين الوهاد والتلال..

ويبدو أن وزير النفط، وهو شاعر بطبعه وطبيعته، لم يستخرج لهذا البلد سوى الشتائم الموجهة لشيوخ المعارضة من ذوي القدم الراسخة في النضال ضد قبح الواقع وسيزيفيته...

لقد اهتدى ولد عبدي فال إلى احتياطي التطبيل، فلم يرحم ولم يحترم الرأي الآخر، وغرد في أحاديته، عازما على استخراج مخزونه من "اللفظ الأسود"..

أما وزير النقل ولد حدمين، فيبدو أنه سارع إلى انواذيبو ليشمت من الأحذية التي طلقتها المعارضة في "ميدان ابن عباس".. لعل الوزير الساخر الشامت لا يقدر الحالة "الحذائية" التي ينتعلها المواطن الموريتاني البسيط هذه الأيام..

لا شك أن الحزب الحاكم "وجدها" هذه المرة في المعارضة، وهو دائما "يجدها" في الوقت غير المتوقع.. إن قادته يسخرون من "بشائر الأحذية"... ومن يوم الخندمة وأيام العرب والعجم..

لكنني أبشر أصحاب الأحذية الضائعة، فهي ستبقى كما تركوها ذلك أن الحزب الحاكم لا يسير.. فهو متوقف عند حدود التجمد، ولا يحب الحركة ولا التغيير.. ولا تزال ساعته متوقفة عند الثامن عشر من يوليو، تماما كما هو حال أحزاب المعارضة المحاورة، التي ترفض أي حوار جديد، وهذه أول "قوة ديمقراطية" تقف حجر عثرة في وجه الوفاق الوطني، وتمنع الفرقاء من محاولات تجاوز الأزمة السياسية..

يقال هنا إن الحزب الحاكم جمع مليار أوقية لتمويل حملة تجميل النظام.. لكن المشكلة ليست في المساحيق، وإنما في طريقة استخدامها وفق لغة العاملات بصالونات تجميل "اللحم الأبيض المتوسط" في العاصمة نواكشوط..

أولى ثمار هذه الحملة أننا نشهد ميلاد جيل جديد من الهجاءين، الجيل الذي أنجبته عبقرية الأزمة.. ولماذا كل هذا الضجيج إذا كانت المعارضة عاجزة عن التحليق من ساحة "ابن عباس"..!

لماذا نخاف تحليق "الأجنحة المكسورة"..

إذا لم تكن المعارضة موجودة وكانت أقلية معزولة وعاجزة.. فلماذا نحن في حملة لا تتوقف... لماذا مهرجانات التحدي، وكرم "الياي بوي"، ومتاريس الشرطة وخراطيم مياهها، وقنابلها الصوتية والحارقة وهراواتها ومعتقلاتها..

نحن في الجمهورية العربية الموريتانية لا نحب إلا متاهات التناقض.. كل واحد منا قابل للتحول إلى طبل تقرعه المصلحة الذاتية.. طبل صالح لكل المواسم.. يدق نفسه تلقائيا عند مرور الموكب من أمامه..

يمكن أن نصور جحيم الجفاف بالمقلوب ليتحول إلى قفير نحل مليء بالعسل... يمكن أن نجفف البحر ونستغني عن المجداف والملاح.. يمكن أن نصور كل دخان بخورا يضمخ مسامات الروعة..

يوجد عقلاء يفضلون الجنون في موسم الكبريت والنار...

يوجد ثلاثة ملايين فقير عالقون في شرك استمراء الأمل في سنوات الرمادة السياسية..

أريد اليوم أن أقول لكم، إنه لا يوجد ابن ساعدة... وإن سوق عكاظ قد تحول إلى محل خصوصي لارتجال الضمائر الميتة، وإن كل الخواطر الجميلات انتحرن على خد الأفق الأزرق.. ولم تعد للغول وظيفة في غابة الشر..

لن أمدح اليوم النهود والأهداب، ولن أسبح في العيون النجلاء، ولن أرمي مركب ابن رشد ليتسلى البحر بحكايات الموج والسندباد.. ولن أقرأ قصائد المتنبي على هبل.. كما لن أطير مع ابن عباس..

فالحزب الحاكم قرر عن سبق إصرار وتعمد أن يحجز مقعدا للوطن في الجحيم.. وبدأ يزني بعقارب الساعة أمام الشهود، ويعرض التاريخ والجغرافيا للبيع في سوق النخاسة..

أنا اليوم، أيها المتعبون من ذكرى سنابك الخيل، أيها الحالمون بالمزن والمرعى والعذارى، أيها المتأبطون عصيّ السحر.. أعلن أمامكم، ومن قاعات الأبدية الفخمة، أنني لن أوزع الحلوى على بائعي الشعر بالجملة والمفرد، بالكامل والمجزوء..

وسوف أبدأ من اليوم حماية ماركة القافية وأصالتها، وأدعوكم لمواجهة الإرهاب الشعري في وجه مغارات القبح.. وعليكم أن تفتحوا بوابات جمهورية الشعر لكل الخائفين، وتقدموا لهم مناديل من ورد يمسحون بها دموع الندى.. حتى لا تكفر السياسية بالجمال.. فتحرق آخر مراكب الشمس.. وتجفف البحر من أحلامنا.

30. نوفمبر 1999 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا