..من بين كل الذين حدثوا عن العاشر يوليو، كان هو الأجمل والأنصع والأروع، حتى الذين حضروا بياننا الأول "الأول" وشاركوا فيه، حين يكتبون عنه ويحشون أدمغتنا الصغيرة بتفاصيله المرهقة والمملة، لا يضاهون أبدا حبيب ولد محفوظ في ما كتب، مع أن كل الذي كتبه الرجل عن العاشر يوليو هو زاوية "موريتانيد" واحدة، لكنها كانت تكفي وزيادة، فالذين يكتبون عن أوطانهم بشغف وحب كبير، هم وحدهم من تحتفي بهم الذاكرة، وتحولهم إلى مزارات جميلة داخلها،
حبيب، كان يختلف عن الجميع، إذ لم يكن يكتب عنا أو يكتب لنا، بل كان يكتبنا كما نحن، بدون رتوش ولا تطرية، كان يفضحنا، يعرينا، يجعلنا نرى عوراتنا رأي العين، وحين كان يشعر بأننا بدأنا نحس بالبرد من شدة الخجل، وأن أسناننا بدأت تصطك، كان يشفق علينا ويدثرنا بكلماته الحارة،
الدفء في كلمات هذا الرجل المدهش، هو ما جعلنا نتحمل صقيع أزمنة الغياب الطويلة والثقيلة، هناك أشخاص حين يرحلون عنا، يتوغلون أكثر داخلنا، وحبيب كان أحد هؤلاء،
..يقول حبيب، إنه كان نائما عندما حصل الانقلاب الأول، وأنه حين استيقظ على أصوات الموسيقى العسكرية تنبعث من المذياع الصغير بجانبه وتملأ أرجاء المكان، كان أهم سؤال واجهه: هو كيف يتصرف؟ إذ لم تكن له سابق معرفة بما يجب على المرء القيام به حين يحدث انقلاب عسكري في بلده، فلم يسبق أن حدث شيء من هذا القبيل عندنا، كما أنه لم يتوفر في مكتبات مدينة نواكشوط الصغيرة وقتها، كتيب يعلمك كيف تحسن التصرف حين يحدث انقلاب عسكري، مثل الكتيب الشهير: "تعلم اللغة الفرنسية في سبعة أيام"،
بعد أن فكر في الأمر مليا وقلبه على جميع أوجهه، سيخلص حبيب إلى أن الخيار الوحيد أمامه، في ذلك الصباح الخريفي الرطب، المشحون برائحة المطر والبارود وأصوات أحذية العساكر، هو "الارتجال" ولا شيء آخر سوى "الارتجال"، وهكذا بدأ الرجل يرتجل...،
ما كان يريد حبيب أن يهمس به لنا، وهو يروي لنا قصته الطريفة مع العاشر يوليو، هو أننا "بلد الارتجال" و"شعب الارتجال" بامتياز، التحول الكبير الذي حدث في حياتنا، كان يوم انتقلنا من عشق الشعر إلى عشق السياسة، لكن شيئا لم يطرأ على طبيعتنا الأولى، فكما كنا نرتجل ونحن نقرض الشعر، أصبحنا نرتجل ونحن نمارس السياسية:
الارتجال الأول أو"شيخ الارتجالات"، حصل سنة 1960، بمعية الراحل المختار ولد داداه والرفاق، والارتجال الثاني حصل سنة 1978، حين قرر العسكر أن ينظف المسرح ممن عليه، ويتولى هو بنفسه عملية الارتجال، عملا بالقول الشامي الجميل: " ما في حدا أحسن من حدا"، وبعدها تتالت الارتجاليات وتوالى المرتجلون على الحلبة: ارتجال 1984، ارتجال 2005، ارتجال 2008، وفي كل مرة كان الأمر يشبه لدرجة الاستفزاز، وصلات ال .One Man Show
لا يوجد في تاريخنا "زمن سياسي جميل"، نحن فقط، الذين دأبنا واجتهدنا على تسمية عوابر السنين ب"الزمن الجميل"، من باب ثقافة "البكاء على الأطلال" و"رحم الله الحجاج ما أعدله"، وإلا فإن كل أزمنتنا السياسية، كانت دائما "ارتجالية" مليئة بالوجع والأنين، وتشبه بعضها البعض حتى نهايات التفاصيل،
السياسي المحنك، الأستاذ محمد يحظيه ولد أبريد الليل، الذي حضر "ارتجالين وطنيين" على الأقل، يقدم لنا وصفا بديعا لنتائج هذه "الارتجاليات الوطنية المدوية"، فحواه، أننا بالمحصلة أصبحنا نعيش داخل "بناء مائل"، مهدد بالسقوط، وأنه قد يحدث أحيانا أن ننسى هذه الحقيقة، حين يحصل "ارتجال وطني رائع"، كالذي جرى بعيد انقلاب 2005، لكنها (أي حقيقة البناء المائل)، ما تلبث أن تطفو على السطح من جديد لتذكرنا ببؤسنا السياسي المزمن،
.. مؤخرا، سألني أحدهم عن رأيي في "الحراك" الذي يجري داخل الحزب الحاكم، أجبته بأن الحزب يفكر ب"منطق اللحظة"، لكنه في الوقت نفسه، يفكر "من خارج هذه اللحظة":
هو يفكر ب"منطق اللحظة"، حين يقيم أياما للتشاور وحين يطلق عملية كنس كبرى، لإعادة ترتيب قطع الأثاث المتراكمة داخل البيت، لأن اللحظة تتطلب ذلك فعلا، لكنه يفكر"من خارج اللحظة"، حين يصر قادته على أنهم يقومون بما يقومون به، طبقا لتوجيهات الرئيس وبرنامجه الانتخابي!
لكي يعيش في عمق اللحظة، على الحزب الحاكم أن ينأى بنفسه عن برنامج الرئيس وتوجيهاته ونظرية "الأب المؤسس"، وكل عناصر خطابه الماضي، وأن يقوم بإنتاج خطاب سياسي جديد، يناسب اللحظة، حتى لا يقع في ورطة سياسية كبيرة، فما بعد رئاسيات 2019 سيختلف كليا عما قبلها، مهما كانت نتائج تلك الاستحقاقات، تلك سنة الحياة التي لن تجد لها تبديلا،
ما يجري على الحزب الحاكم، يجري أيضا على المعارضة، فهي تفكر ب"منطق اللحظة" حين تقرر المشاركة وحين تسعى للتكتل دفاعا عن مصالحها، فهذه المسائل تقع في قلب اللحظة السياسية الراهنة، لكنها تفكر "من خارج اللحظة"، حين تبقي حبيسة نفسها وصورتها النمطية، كمعارضة للنظام الحالي،
على المعارضة أن تنسى أنها معارضة، أن تأخذ إجازة من نفسها وتنزع كافة أثوابها العتيقة، وأن تقدم نفسها للموريتانيين ك"مشروع سياسي وطني"، يبحث عن موطئ قدم له، في المشهد السياسي القادم، فبذلك تقبض على اللحظة ويتسنى لها عجنها،
المعارضة الحالية قد تكون هي الأغلبية غدا، أو قد يكون بعضها ضمن تلك الأغلبية، والعكس صحيح، بمعنى أن الشيء ذاته ينطبق على الأغلبية الحالية، فلماذا نحكم على المشهد السياسي القادم بالثبات، مع أن كل المعطيات تشي بأنه سيكون بداية زمن التحولات؟ ولماذا نصر جميعنا على خنق عامنا الانتخابي الكبير قبل يبدأ، بينما يمنحنا هو فرصة ذهبية لالتقاط نفس سياسي عميق، بعد سنوات ضيق التنفس الطويلة ؟
لا يعقل أن يفكر وطن بأسره من خارج اللحظة التاريخية، بسياسييه بمثقفيه بإعلامييه بأكاديمييه...، هذا الخلل في التفكير، بات يهدد بتحويل عامنا الانتخابي الكبير، إلى عام "الارتجال الكبير"، وسيكون من المحبط جدا، أن تظل "ارتجالياتنا السياسية" تطاردنا، ونحن في عقر دار القرن الواحد والعشرين...