حصل مرة أن تبادلت أطراف الحديث مع شاب معتز بما لديه وأنه من أصحاب الرأي المزعومين، وكان الحديث يدور حول بعض الشذوذ الفكري الذي أصاب ويصيب الكثير من متعلمينا بفعل "الحرية" ومن جملة ما بحثناه أن سألته :
"الرئيس لا يسألنا كشعب عن بعض ما يفعله ببلدنا وهناك أشياء كثيرة لا نفهمها.."
فقال لي: الرئيس ليس مجبرا على تفسير كل تصرفاته"
سألته : لماذا؟
فقال: لأنه الرئيس والشعب وضع ثقته فيه"
فقلت له: إذا لم نفهم قد نظلمه فنسيئ فهمه"
فقال لي: ليس عليكم ذلك؛
فقلت له: طيب ولماذا؟
قال: لأنه الرئيس المختار يجب أن تثق فيما يفعل سواء فهمته أم لا..!
فما كان مني إلا أن فرحت بذلك وتقبلته، فقلت له: هذا تقوله وتصوغه لمن يختاره الشعب؛ فما بالك بمن يختاره خالق الكل رسولا له إلى خلقه؛ لماذا إذن يحاول الكثيرون أن يشرحوا كل تصرف له، ليس مضطرا إذن لأن يشرح كل ما يفعله وعليك أن تثق به فحسب.. ودخلنا عندها في سجال آخر..
على أية حال؛ مسألة استغلال "حرية التفكير والتدبير والتعبير..وما إلى ذلك" هي من مظاهر ثقافة العصر ومن شعارات ما يطلقون عليه "النظام العالمي الجديد" -مع التحفظ- وعلى إطلاق ذلك يقولون لك: "لا تضع السلاح في يد متهور" ويقولون: "ضع الدواء بعيدا عن متناول أيدي الأطفال" ويكتبون لك تحذيرات على غرار "ممنوع دخول هذا المكان على غير المختصين" .. إلى آخره.
وإني أتساءل بأي لغة يتحدث هؤلاء حين يقولون بتلك الحريات على إطلاقها.. وهي اخطر السلاح؟ ثم يردفون بلغة الوعظ: "يجب عليكم أن تحسنوا استخدام الحرية.." في الحقيقة إذا تأملتم، هذا الأمر كله هراء..!
ما يحصل هو أنهم كمن ينشر الوباء في لحظة غضب أو حماسة ثم يكتشف بعد أن تهدأ نفسه أنه لا يملك الدواء..
فيبدأ يرتجل ويتخبط حائرا فهو لا يملك الدواء للمصاب من جهة، ويحاصره إحساسه بالذنب في مصاب المريض من جهة ثانية، وعليه معاملة "مريض" من جهة ثالثة.
هذا الوضع خلق فوضى عارمة وجعلها أمرا طبيعيا، وسبب انتشار التكسب بأي طريقة، وصارت معايير الرفعة لا معالم لها، وراجت عباءة المال مخفية تحتها كل ما يمكن تخيله من عدم الشرعية، فكانت النتيجة أن يتعايش الناس دون أن يثق أحدهم في الآخر، في موجة عالية حملت عنوان "عدل همك واسكت فمك" وأتحداكم أن يكون من بينكم من يشعر بالرضى أو ينام مطمئنا مرتاح البال، في هذا الخضم؛ ذلك أمر محال.. !