عام "الرماد"..!! / حبيب الله ولد أحمد

altنحن في عام الرماد .. (لا حاجة بنا لتاء مربوطة هذه المرة) فقد شبعنا "الرمادة" وعلينا - من باب مساواة التذكير بالتأنيث- أن نشبع رمادا...تذكروا أن قصرنا رمادي اللون والتسمية، مع أنه "قليل الرماد" منذ أن استخلصه "عزيزنا" لنفسه..!!

وباستثناء "المادة الرمادية" فقد أصبح "الرماد" بكل تجلياته ومسمياته جزء من حياتنا، ننام عليه ونستيقظ...سياساتنا وأحزابنا رماد...قادتنا "المعارضون" والمغالبون" يوزعون علينا رماد أفكارهم وعنترياتهم، وأحيانا رماد أعمارهم...عسكريونا ينفضون بيننا بعناء - وببزاتهم الرمادية - رماد سنوات الخنادق (والانقلابات) بانتصاراتها وهزائمها، الأدباء والشعراء والصحفيون لكل امرئ منهم "رماده" الخاص به..!!

كل شيء في حياتنا مظلل بالرماد...صناعاتنا، مشاريعنا، اتفاقياتنا، علاقاتنا بالآخرين، زراعتنا، نفطنا،صحتنا ، تعليمنا، صيدنا، حديدنا، ثقافتنا، عقلياتنا، علاقتنا بوطننا، نخبتنا، نضالاتنا، مدننا، أريافنا، كلها رماد في رماد تحته لهيب..!!

هل كنا ذات تاريخ شعبا من شعوب الهند، نشعل الموتى، ونذر رمادهم فوق الأنهر والجبال المقدسة..؟!!

لا أعتقد أننا كنا كذلك، فرمادنا نحتفظ به نجمعه و نركمه ونعجز عن التعامل معه...الرماد بالنسبة لنا "ثروة قومية"، قد لا نصدره وقد نكتفي بذره في أعين بعضنا، لكننا يقينا لن نستورده، لأن استيراده إلى بلدنا، هو من قبيل "نقل التمر لخيبر" وجلب الحجارة للجبال.

شيء واحد كنا غير مؤمنين بوجوده، وهو رماد الكتب الدينية، التي منها تعلمنا الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والطهارة، والجهاد، والحرية، وإخراج الناس من الكهوف المعتمة إلى ألق الشمس، ورابعة النهار...هذا الرماد وحده لم نكن نصدق أننا سنراه رأد الضحى، إلى أن "انبعث أشقاها" وأضل "السامري" حفنة من الناس، فأغراها بحرق الكتب الفقهية، وابتداع صلاة جمعة جديدة، كانت في جوهرها أبلغ من حرق كتب الذين علمونا الصلاة معنى ومبنى شكلا ومضمونا...صلاة في الهواء الطلق، ليست في مسجد مبني، ولم تحضر خطبتاها، ولم يصعد إمامها على المنبر، لم يسبل العمامة، ولم يستند إلى عصا أنيقة مهيبة، ولم يخض في أمور عامة المسلمين، ودعونا من شروط الإمامة والمعايير الفقهية لها، ولصلاة الجماعة (أي فتوى أو رأي مخالف لرأي زعيم "إيرا" حول مشروعية هذه الصلاة قد يتم حرقه والتشنيع على صاحبه).

هل كان حرق جماعة "ايرا" للكتب هو نوع من "إعدام الشهود" كما حدث في بعض "المجازر" و"المحارق" عبر التاريخ، حين يقدم الجناة على ذبح أو حرق بعض الشهود لإخفاء الجريمة وطمس معالمها .؟!

أم أن ممارسة الشعائر الدينية لأغراض سياسية مصلحية خلافا لما نصت عليه تلك الكتب سبب إحراجا ل"الزعيم" فقرر "الإجهاز" عليها دفعا للحرج؟!.

ربما كانت بطون تلك الكتب تحمل الشهادة الكاملة على بدعية تلك الصلاة، الأقرب في حقيقتها إلى تجمع سياسي منها إلى صلاة جامعة، كما أنه يمكن اعتبارها "خلطة(كوكتيل) طقوس دينية"...فمن "اليهودية" جاءت إقامتها إلى جانب حائط تم تحويله إلى "حائط مبكى" والبكاء حوله على قيم العدل والحرية...ومن "البوذية" جاءت فكرة أنه لا شيء في النهاية يستحق القداسة، فالقداسة إكسير نفسي داخل روح "المؤمن" وليست هبة تمنح لفكر، أو منهج أو إله...ومن "الديانات الهندية القديمة" جاءت فكرة "ترميد" الكتب (طبعا تم استبعاد الطقوس المتعلقة بعبادة البقر لأسباب وجيهة من أهمها أن البقر انتحر جماعيا في البلاد بسبب "دناءة" الجهود الحكومية لإنقاذه من الجفاف)...ومن "المجوسية" جاءت فكرة إشعال النار العظيمة، لصناعة الرماد...ومن "النصرانية" جاءت فكرة غمر المكان بالدخان، وبألوان مختلفة، لكل منها دلالاته في أدبيات "الكنيسة"...ومن "عبادة الأوثان" جاءت فكرة تقديس"الزعيم وتأليهه "و طاعة "المخاليق" له ولو في معصية الخالق..!! ومن " اللائكية" جاءت فكرة أن منابع الدين أيا كان وأيا كانت قداستها لا تعدو كونها اجتهادات ليست محصنة ضد المراجعة والنقاش والأخذ والرد، وحتى الحرق..!!...ويقينا كانت العلمانية حاضرة بقوة في محرقة بيرام حيث فصلت الدولة نفسها عن الدين ضعفا وغيابا وفقدانا للسيطرة (الدولة التي ترفع شعار التدين تنفر الناس من الدين عندما تعجز عن حماية مقدساته وتحوله فقط إلى "حصان خشبي" تركبه لترغيب هذا أو ترهيب ذلك بنفس الطريقة التي تنفر بها التيارات الدينية المسيسة الناس منه عندما "تنفرد" به و"تحتكره" لتضرب بمقدساته عرض الحائط حفاظا على مصلحة أو مال أو سلطة وتحوله إلى متجر لبيع الفتاوى وصكوك الغفران و"وراقة" لسحب وبيع بطاقات الدخول إلى الجنة أو النار).

أما اللغة، وشكل الصلاة، ونمطها ومقروءاتها، فقد كانت مستوحاة بالكامل من الدين الإسلامي الحنيف. .

"تخبط ديني" إذن ذلك الذي شهدته"الضاحية الجنوبية من العاصمة" ذلك الجمعة الأسود ( هنا أيضا قد يتبادر للذهن أن طقوسا شيعية كتلك التي تعرفها "ضاحية بيروت الجنوبية" صبغت صلاة المحرقة)..!!

وهل كانت مفارقة أن أغرقت مقاطعة "عرفات" بكتب"الإنجيل" في نفس الوقت الذي كانت فيه ألسنة اللهب تأكل متون الفقه المالكي الخالد في مقاطعة "الرياض"؟! (علينا فعلا البحث عن دلالات إغراق إحدى أكبر مقاطعات العاصمة بالإنجيل وإفراغ مقاطعة أخرى تحدها وتشكل امتدادا جغرافيا لها من كتب فقه السنة والجماعة).

نحن لا نريد لبلدنا أن يكون "جمهورية رمادية"...ولذلك - ولأننا شبعنا رمادا- فإننا لا نريد مزيدا من الرماد... لا نريد رماد "بيرام" ولا رماد "إيرا" (قيل لي إن عبارة "إيرا" بالاسبانية تعنى الحقد)..

حادثة "الرياض" حولتنا رمادا تذروه الرياح...جرحتنا في أعز ما نملك، وهو عقيدتنا ومذهبنا ومقدساتنا، ضربتنا في الصميم، واستفزت كل واحد منا... كنا نعتقد أن حرق الكتب جبن وحقارة، فلماذا لا نواجه الكتاب بالكتاب، والفكرة بالفكرة، والصوت بالصوت، أليس عملا بدائيا أن نحرق كتبا عجزنا عن مقارعة حجتها..؟! وما معنى التنور والدعوة لقيم العدل وحقوق الإنسان، إذا كان "الحقوقيون" أنفسهم أعداء للفكر والحوار، يخافون الكتاب وأفكارهم (أم أن تلك الكتب المحترقة مهما كانت محتوياتها هي من تأليف أشخاص- أودعوها عرقهم وجهدهم واجتهاداتهم وآراءهم - حقوقهم يفترض أنها تدخل تحت طائلة حقوق الإنسان؟!)، والعلماء وأطروحاتهم، وأصدقاء للنار والغلو والطيش، يتلذذون برؤية النار، ويرقصون عرايا مثل رجال القبائل الحجرية البدائية على دخانها..؟!

أليست إقامة الصلاة على طريقة شرحها لنا تفصيلا رجال حرقنا كتبهم، ثم القول بعد ذلك - بتماسيحية لافتة - باتباع النهج القويم الذي يمثله منبع تلك الكتب، ومبرر وجودها أصلا، مجرد نوع من البحث عن ظل شجرة محترقة..؟!

اليوم حدث ما حدث، وكثر فيه الجدل... توجد آراء متباينة بطبيعة الحال (وإن كان الإجماع حاصلا على أن "بيرام" وحده الذي يجب أن يبوء بإثم ما حصل فعليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم الدين)...لنلخص رأيين بارزين وسط كل هذا الجدل:

- الحادثة مفتعلة من طرف "بيرام" وحده، ومن دون استشارة أنصاره الذين شاركوه مسرحية "جمعة الرماد"، فقد كان بحاجة لتصرف بهذه الرعونة، فحركته شهدت نزيفا قاتلا بعد انسحاب معظم أطرها وشبابها احتجاجا على تفرد "الزعيم" بالقرار و"القنطار" (بعض المنسحبين من "إيرا" رأى أن بصمات صهيونية وأجنبية ظهرت بقوة على تصرفات بيرام وأن تمويلات غامضة تذهب إلى جيبه لدرجة إنفاقه على قوة حرس شخصي خاصة به ناهيك عن أسفاره الكثيرة إلى الخارج وإقامته في أرقى الفنادق الفرنسية والبلجيكية والسويسرية وحتى السنغالية وحصوله على العديد الأوسمة والجوائز من دوائر ماسونية عالمية وصهيونية مشبوهة) ثم إن الأوروبيين كانوا ينتظرونه على أحر من الجمر، وينتظرون "هدية" يقدمها لهم، فسب العلماء وزرع الفتن، والتطاول على الدين، "هدايا" لم تعد تستمطر جيوبهم ، ولربما كان من المهم حرق كتب المذهب المالكي في بلد شعبه كله سني مالكي محافظ وتصوير الحادثة وتوثيقها، حيث أنها خروج على المألوف في بلد بتلك المواصفات، وبالتالي فالسعر المدفوع هذه المرة لا بد أن يكون باهظا، واستثنائيا، بحجم الحادثة المروعة... من المهم استغلال حادثة كهذه للقول إن "إيرا" (حية) لم تمت، وزعيمها ما ال يروض حصانه "الرمادي" بثقة تامة..!!

- الحادثة إنتاج مشترك بين "بيرام" ومخابرات ولد عبد العزيز(بعض المنسحبين من "إيرا" يرون أن "جسور تواصل" خفية تم مدها بين "بيرام" كشخص وبين بعض من "الوكلاء الأمنيين" للنظام في الفترة الأخيرة وهذا ما يفسر انضمام بعض الأسماء من العرب البيض والسود والتي اعتاد الناس وضعها بين قوسين"أمنيين" لصفوف المنظمة)، وأريد لها أن تكون صاعقة وعاصفة توقيتا وهدفا(تأتى في ذروة الاحتقان وتزايد الأصوات المطالبة برحيل النظام وعلى أبواب الحراك المحموم لمنسقية المعارضة)، فمن المهم للنظام المنهك أن ينشغل الناس عنه بمحرقة "بيرام"(حرص التلفزة الوطنية على نقل وقائع حرق الكتب وعدم تحرك السلطات لفض التجمع غير المرخص لحركة خارجة على القانون والتباطؤ في اعتقال الجناة وركوب النظام للموجة واستغلالها سياسيا على أكمل وجه كلها أمور تزيد الشكوك في ضلوع مخابرات النظام في الحادثة)، ليتفرغ لهوايته في إفقار البلاد وإذلال الناس وتجويعهم، وتسيير أحزاب الورق والقماش في كرنفال بائس باهت تحت شعار "كلنا عزيز" (شعار أضاف له بعض الثقلاء ألفا "طائرة" ليصبح هكذا" أكلنا عزيز")، للتغني نفاقا وتلفيقا بمنجزات الوهم والسراب يقال والله أعلم إن حملة "الاتحاد" و"الحراك" وما بينهما من "نساء" و"شباب" استنزفت خزينة الدولة الموريتانية وكلفتها حتى الآن مبالغ معتبرة سيقال إنها أنفقت على الورق المقوى والقماش الملون ومكبرات الصوت (والصورة) والمقرات الفاخرة وتأجير السيارات الفارهة).

لا يهمنا كثيرا الخوض في أسباب الحادثة، ، بقدر ما يهمنا القول إن القضية الآن أمام القضاء، فلنترك له الكلمة الفصل بعيدا عن الشحن والغلو والاستغلال السياسي(هناك تدافع للمسؤولية عن الحادثة بين النظام والمعارضة وصل حد التراشق بنظرية "المؤامرة")...من حقنا جميعا كمواطنين موريتانيين تم استفزاز مشاعرنا وعقائدنا بحرق أمهات كتب مذهبنا المالكي، أن نطالب بالقصاص عدلا من "بيرام"، تماما كما أنه من حق المواطن الموريتاني "بيرام ولد الداه ولد أعبيد" أن يقول حجته، ويدافع عن نفسه أمام قضاء مستقل غير مسيس، وفى محاكمة عادلة، تكون الكلمة الأولى والأخيرة فيها للقانون والقانون وحده.

ليكن رماد أمهات كتب الفقه المالكي آخر رماد لدينا (نحن واثقون من أن ألسنة اللهب كانت بردا وسلاما على الكتب القيمة التي أريد لها أن تحترق فهي في عقول وقلوب ملايين البشر عبر العالم والتاريخ ولا تمكن مصادرتها بعود ثقاب وقطرة بنزين) فلم يعد بمقدورنا تحمل كل هذا الرماد وما تحته وفوقه من لهيب، في عامنا هذا الذي هو أطول وأكثر أعوام الرماد(ة) بؤسا ويأسا في حياة كل الموريتانيين.. وسنظل نتفاءل بأن وطننا سيخرج من ركام الرماد هذا - كما طائر العنقاء - قويا محلقا بجناحين غير مهيضين نحو أفق قادم من الوحدة والقوة والحرية.!!

30. نوفمبر 1999 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا