بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد
فقد قرأت ما كتب الشيخ محمد بن محمد الأمين الشنقيطي البخاري حفظه الله حول الجواب المعنون بـــــــ"الخوارج وأتباع الرسل" وأشكر للشيخ تواضعه وحسن ظنه ، وقد وجدت فيما سطرته يداه مجالا واسعا للمذاكرة التي هي أهم وسائل حفظ العلم كما نص عليه
علماء المصطلح ؛ فأردت أن أغتنم فرصة فتحه لذلك الباب للاستفادة من مغنمه المُطاب ، والله الهادي إلى الصواب.
وستكون هذه المذاكرة في أربعة مجالس :
المجلس الأول في مناقشة ملاحظات الشيخ على الأسلوب المنهجي للجواب
المجلس الثاني في مناقشة استدلالات الشيخ
المجلس الثالث فيما يتعلق باستعمالات الكفر في القرآن والحديث
المجلس الرابع في ما يتعلق بالخروج على السلطان.
المجلس الأول
قال الشيخ حفظه الله : طريقة الاستدلال على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله وقع فيه إهمال بعض الضوابط المهمة وأولها الواقع وثانيها الترجيح بين الأقوال وثالثها تصحيحها بعد التخريج
أقول : أما ما يتعلق بإهمال الواقع فاللوم فيه -إن كان فيه لوم- على السائل ؛ لأن ما كتبتُ كان جوابا على سؤال ، وتصوير الواقع وظيفة السائل ، والجواب إنما يكون بحسب السؤال.
ونص السؤال : الذي يخرج على الحكام اللذين لا يحكمون بشرع الله اليوم وقوانينهم وضعية هو من أتباع الرسل أم من أتباع الخوارج؟"
وقد أوردته كاملا وكتبتُ تحته الجواب ، فالقدح المنتظر في هذا السياق هو أن يقال إن الجواب غير مطابق للسؤال.
وقد كان جوابي على هذه النقطة للأخ الذي راسلني بها هو أن هؤلاء أتباع الخوارج مستدلا بواقعة نشأة الخوارج موثقة من كتب التاريخ وهي أنهم "اجتمعوا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، وقوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، وكذا التي بعدها وبعدها الظالمون الفاسقون ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين".
فشبهة الخوارج أن الحاكم في زمنهم حكم بغير ما أنزل الله ، وهذه هي الشبهة التي جُعلت في السؤال مستندا للخروج على حكام العصر.
ثم أوردتُ تعليق ابن كثير في البداية والنهاية عليهم بعد سرده لهذه الواقعة ؛ حيث قال : قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوَّع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم. وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. هـ ثم بينتُ عدم صحة استدلالهم بالآية محتجا بنصوص علماء السنة من المفسرين والمحدثين والفقهاء. والتي تطابقت على أن الآية لا تدل على كفر حكام المسلمين إن حكموا بغير ما أنزل الله ، مع التنبيه على أن تعمد الحكم بغير ما أنزل الله معصية معدودة من كبائر الذنوب ، لكنها لا تصل إلى الكفر المبيح للخروج على السلطان.
وأما الترجيح بين الأقوال فأنا لست أهلا للترجيح ، مع أن الترجيح إنما يكون عند التعارض بين الأدلة ، وأنا لم أطلع في بحثي على معارضة تحتاج للترجيح ، لأنني اقتصرت على ما رجح مشاهير المفسرين وشراح الحديث والمكفيُّ سعيد.
وسأتعرض في المجلس الثاني للترجيح بعد ما قدَّم الشيخ البخاري من أقوال مأثورة عن علماء السلف.
وأما التصحيح بعد التخريج فكما قال الشيخ –تواضعا- إنه ليس أهلا للتعليق فأنا أقول –حكاية للواقع -إنني لست أهلا لتعقب كلام ابن عطية والبغوي والقرطبي وأبي عمر بن عبد البر والقاضي عياض والنووي....رحمهم الله تعالى تصحيحا ولا تضعيفا ، وإنما أنقل كلامهم وأرجو أن أكون قد نقلته بأمانة .
قال الشيخ : نقلكم لكلام المتقدمين رغم ما يتخلل بعضه من ضعف الإسناد محله الحاكم بما أنزل الله في الحكم العام لكنه يترك أو يتكاسل عن بعض القضايا الخاصة لقرابة أو شهوة أو رشوة وهذا خلاف القضية اليوم ، وهذا خلاف الواقع ؛ فالقضية اليوم استبدال الشريعة بدساتير وضعية تقوم على مبادئ تناقض أصل الشريعة فلا مجال للاستدلال بالحكم في القضايا الجزئية على القضايا العامة حتى لا ينحرف الاستدلال عن مراد المستدل أصالة
أولا : وددت لو بين الشيخ ما حصل فيه ضعف في الإسناد
ققد أوردتُ استقلالا ثلاثة أحاديث :
أحدها متفق عليه وهو ما روى الشيخان عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان)
والثاني أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبة، ويقاتل للعصبة، فليس من أمتي، ومن خرج من أمتي على أمتي، يضرب برها وفاجرها، لا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها، فليس مني)
والثالث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود،: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيليكم أمراء يفسدون، وما يصلح الله بهم أكثر، فمن عمل منهم بطاعة الله فلهم الأجر وعليكم الشكر، ومن عمل منهم بمعصية الله فعليهم الوزر وعليكم الصبر ".
وعلق عليه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1441) بقوله :
أخرجه مسلم من حديث أم سلمة «يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون» ورواه الترمذي بلفظ «سيكون عليكم أئمة» وقال حسن صحيح.هـ
وأما الأحاديث والأخبار التي وردت ضمن كلام العلماء محتجين بها فالعهدة فيها عليهم.
ثانيا قوله: ..محله الحاكم بما أنزل الله في الحكم العام لكنه يترك أو يتكاسل عن بعض القضايا الخاصة لقرابة أو شهوة أو رشوة
لا أدري من أين أخذ الشيخ أن سبب خروج الخوارج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه تركه لبعض القضايا الخاصة لقرابة أو شهوة أو رشوة ؛ وقد تقدم النص في أن سبب خروجهم هو ما قال خطيبهم :" أشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين".
وقد تلا عليهم قبل ذلك آيات من القرآن منها قوله تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، وقوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، وكذا التي بعدها وبعدها الظالمون الفاسقون"
وعلى كل حال فالمدار على استدلالهم بالآية على كفر الحاكم بغير ما أنزل الله واستباحة قتاله بذلك.
ثم إن ظاهر هذا التفريق الذي ذكر الشيخ "البخاري" بين مسألة الخوارج ومسألة الحكام المعاصرين أنه يرى أن أخذ الرشوة الذي هو السبب الأول للخروج أهون من وضع القوانين الذي يعتبر مبررا للخروج في هذا العصر ، مع أن أقوى ما تمسك به الشيخ من ادليلا على تكفير الحكام المعاصرين أثر ابن مسعود وبعض التابعين الذي ورد فيه الاستدلال بالآية على كفرآخذ الرشوة !
ثالثا قوله فالقضية اليوم هي استبدال الشريعة بدساتير وضعية تقوم على مبادئ تناقض أصل الشريعة
هذا لا يخرج عن الحكم بغير ما أنزل الله اتفاقا بيننا ، فقضية الحكم بغير ما أنزل الله في حكم المعدولة الموجبة إذ النفي فيها جزء من مدخوله ، وهي من أفراد سلب الحكم بما أنزل الله ؛ لأن قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله) في حكم المحصلة السالبة وهي أعم من المعدولة الموجبة عند جمهور المناطقة ، وقد نقلتُ في الجواب كلام علماء السنة فيه واتفاق من اطلعت على كلامه منهم على أنه لا يكون بمجرده كفرا ناقلا عن الملة حتى يكون معه ما يستلزم الكفر كاستحلاله لذلك ، مع أنه ذنب من كبائر الذنوب ، ومنكر يجب إنكاره على من قدر عليه وظن النفع ولم يخش أن يؤديَ إلى منكر أعظم منه .
واستحلال الفعل الذي يقتضي الكفر أمر متعلق بالاعتقاد لا يعرف إلا من قبل صاحبه ؛ ولذا قال القاسم ابن سلام في كتاب الإيمان (ص43) بعد الكلام على آثار يطلق فيها الشرك والكفر ولا يراد بهما الخروج عن الملة : ولا يوجب اسم الكفر والشرك الذي تزول به أحكام الإسلام ويلحق صاحبه بردة إلا كلمة الكفر خاصة دون غيرها , وبذلك جاءت الآثار مفسرة.هـ
وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : لا يبلغ المرء حقيقة الكفر حتى يدعو مثنى مثنى. التمهيد (4/ 237)
وأخرج مسلم في صحيحه -في باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله ، من كتاب الإيمان برقم 158/96- عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقال لا إله إلا الله وقتلته؟» قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟» فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة، قال: قال رجل: ألم يقل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة.
وأخرجه الإمام أحمد في المسند برقم 21802 بلفظ :"ألا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك أم لا ؟ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟"
وفي كتاب الإيمان للقاسم بن سلام (ص: 47) عن أنس بن مالك , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من أصل الإسلام: الكف عن من قال: لا إله إلا الله , لا نكفره بذنب , ولا نخرجه من الإسلام بعمل , والجهاد ماض من يوم بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال , لا يبطله جور جائر , ولا عدل عادل , والإيمان بالأقدار كلها "
وأخرج الإمام مالك في الموطأ عن عبيد الله بن عدي بن الخيار؛ قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بين ظهري الناس، إذ جاءه رجل فسارَّه. فلم يدر ما ساره به، حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، حين جهر: «أليس يشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمدا رسول الله،؟»فقال الرجل: بلى. ولا شهادة له.فقال رسول الله: (صلى الله عليه وسلم ) «أليس يصلي»؟ قال: بلى. ولا صلاة له. فقال: «أولئك الذين نهاني الله عنهم. (2/ 239)
وأخرجه الإمام الشافعي في المسند (ص320) ، بلفظ (أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم)
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم 6502 بلفظ (أولئك الذين نهيتُ عن قتلهم)
وقال الفخر الرازي في تفسيره (12/ 368) عند الكلام على الآية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) بعد أن ضعَّف أربعة أوجه من تاويلها : الخامس : قال عكرمة: "قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية" -قال الرازي- : وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم. هـ
فليتأمل قول الفخر الرازي "إلا أنه أتى بما يضادُّه" وسيأتي مزيد كلام على ما يتعلق بالقوانين الوضعية في المجلس الثاني إن شاء الله .
وقال أبو حاتم ابن حبان في صحيحه (13/ 269) في تعليق على حديث "لا ترجعوا بعدي كفارا" لم يرد به الكفر الذي يخرج عن الملة، ولكن معنى هذا الخبر: أن الشيء إذا كان له أجزاء يطلق اسم الكل على بعض تلك الأجزاء، فكما أن الإسلام له شعب، ويطلق اسم الإسلام على مرتكب شعبة منها لا بالكلية، كذلك يطلق اسم الكفر على تارك شعبة من شعب الإسلام، لا الكفر كله، وللإسلام والكفر مقدمتان لا تقبل أجزاء الإسلام إلا ممن أتى بمقدمته، ولا يخرج من حكم الإسلام إلا من أتى بمقدمة الكفر، وهو الإقرار والمعرفة والانكار والجحد.هـ
وفي التمهيد لأبي عمر بن عبد البر : (17/ 21) :وقد قال جماعة من أهل العلم في قول الله عز وجل (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) هو قول الرجل لأخيه يا كافر يا فاسق .
وهذا موافق لهذا الحديث -يعني "من قال لأخيه يا كافر.."إلخ - فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره إلا ببيان لا إشكال فيه .
ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين ثم أذنب ذنبا أو تأول تأويلا فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام ؛ لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها.هـ
رابعا قوله :إذن فلا مجال للاستدلال بالحكم في القضايا الجزئية على القضايا العامة
لم أفهم معنى كون قضية الخوارج مع علي رضي الله عنه قضية جزئية ، وقضية السؤال قضية عامة ، ما معنى الجزئية في تلك؟ وما معنى العموم في هذه؟.
فالمقارنة بين الأفكار والأساليب لا بين الأشخاص والوقائع ومحلها هنا ما ذهب إليه الخوارج من تكفير علي رضي الله عنه لحكمه -في زعمهم- بغير ما أنزل الله واستباحتهم لقتاله استنادا إلى الآية ، وما كفَّر به المذكورون في السؤال حكام عصرهم وجعلوه حجة للخروج عليهم ، هذا هو مجال المقارنة ، أما حال علي رضي الله عنه فلا مجال لمقارنته بحال من عاش فترة خلافته من الصحابة فضلا عن من بعدهم ، وأما الوقائع التي هي من أفراد ما يراه الخوارج كفرا لأنه حكم بغير ما أنزل الله فهي طردية ، لأن العبرة إنما هي بكون ما حصل كفرا عندهم لكونه حكما بغير ما أنزل الله بغض النظر عن نفس الفعل.
وقد قال ابن عرفة في مختصر الفقهي (9/ 92) : فقه القضاء والفتوى مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغي طرديها، ويعمل معتبرها.
قوله : ومن المعلوم أن بعض العامة وأنصار العلمانية لا يميزون ولا يفقهون بمجرد نقل قول يتعلقون به لأنهم في الأصل على مبدأ المخالفة وإتباع المشتبه فلا يفرقون بين الأقوال ولا مراتب الإستدلال.
فإذا رأوا نقلكم الهائل جعلوه من أكبر مبرراتهم على تبديل وتعطيل الشريعة ولعبوا به على عقول السذج من أبناء الأمة الغافلة فاستدرجوهم في حضن العلمانية والديمقراطية.
وعندها يتناسى هذا الجيل أو الذي بعده ما يسمى بالشريعة الإسلامية. وظهر لكم من يحرق المصحف والبخاري ويسب الله ورسله و يستهزئ بالدين والعلماء.
أعتقد -والله أعلم- أن من رأى هذا النقل الهائل -في نظر الشيخ- مهما كان مستواه العلمي سيفهم منه أن علماء السنة لا يرون أن مرتكب الذنب كافر ، وأنهم لا يرون جواز الخروج على السلطان -ولو جارَ ما دام مسلما- ؛ لما يؤدي إليه الخروج من المفاسد التي هي أعظم من جور السلطان ، ولن يفهم منه جواز الحكم بغير ما أنزل الله ، ولا جواز السكوت على مناكر السلطان مع القدرة على تغييرها.
وهذه أمور مبثوثة في الكتب ، ومن العلم الذي لا ينبغي كتمانه.
فليس ماكتبتُ رأيا شخصيا لي أكتبه دفاعا عن من يحكم بغير ما أنزل الله أو تبريرا لذلك الحكم ، فمشايخنا في مقدمة الدعاة إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ، وبلاء شيخنا حفظه الله تعالى في ذلك المضمار معلوم ، وقد أشار الشيخ البخاري إلى بعض المواقف التي تدل على ذلك ، وإنما نقلت من كلام العلماء ما يبين سعة دائرة الملة الإسلامية ، وصعوبة الحكم بالكفر على من ينطق بالشهادتين ويصلي ويصوم ، وخطورة استباحة الدماء بغير حقها.
فقد أخرج مسلم في صحيحه - في باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع من كتاب الإمارة برقم (1854)- عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صَلَّوا»
قول الشيخ : ومن العجب قول الأستاذ والكفر المذكور في الآية لا يراد به إلا ما أريد بالفسق والظلم في الآيتين وهو المعصية.
إلى قوله : وبهذا تعلم أن قوله المراد بالكفر هو المراد بالظلم والفسق وهو المعصية يناقض ما نقله عن عدد من الصحابة والتابعين بأن المعني بهما اليهود والنصارى وهؤلاء لا يشك أحد في كفرهم وشركهم. وبهذا يظهر عدم صحة النتيجة المبنية على ما تقدم ذكره.
ملاحظة الشيخ صحيحة ؛ فالعبارة وقعت سهوا في غير موضعها، فمضمونها أحد الأقوال الواردة في تاويل الآية ، وقد اقتصر عليه ابن بطال في شرح البخاري (9/ 196) عند الحديث عن كبائر الذنوب حيث قال : ...وفى التنزيل الجور فى الحكم ؛ قال تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) و) الظالمون (و) الفاسقون (وقال تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) فهذه تسع وعشرون كبيرة.هـ
وحكى عليه أبو عمر بن عبد البر الإجماع في التمهيد - وهو الكتاب الذي قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوي (3/ 263) إنه هو أجل ما صنف في فنه- ، قال أبو عمر : وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون.هـ التمهيد (5/ 74)
بل ورد التصريح بأنه كبيرة في بعض روايات حديث ابن طاوس عن ابن عباس ؛ ففي تفسير ابن أبي حاتم الرازي (4/ 1143) ما نصه : سئل ابن عباس في قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال: هي كبيرة قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.
لكن العبارة التي هي محل ملاحظة الشيخ -وإن كان مضمونها صحيحا في نفسه- ذكرت في الجواب في غير محلها ، فجوى الله الشيخ خيرا على التنبيه ، وهذا من فوائد مذاكرة نبهاء الطلبة ، ومن الدليل على أن العبارة وضعت في غير محلها سهوا أنني ذكرت بعدها سبب نزول الآية من حديث مسلم وهو أنها نزلت في الكفار.
فالنتيجة غير مرتبة على هذه العبارة الواقعة في غير موقعها ، بل هي مرتبة على مجموع النصوص التي أُوردت بعد ذلك ؛ وهي قول القرطبي في تفسيره إن الآيات نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء. وعلى هذا المُعْظَم. فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل: فيه إضمار، أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن، وجحدا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام فهو كافر، قاله ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا.
قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له."
وعلى قول ابن عطية في تفسيره عند الكلام على الآية : " وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله. ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان.هـ"
وعلى قوله في محل آخر : " والجهة الأخرى أن لفظ هذه الآية ليس بلفظ عموم، بل لفظ مشترك يقع كثيرا للخصوص، كقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ . وليس حُكًّام المؤمنين إذا حكموا بغير الحق في أمر بكفَرةٍ بوجه.هـ"
وعلى قول أبي عمر بن عبد البر في التمهيد :" ومثل هذا كثير من الآثار التي وردت بلفظ التغليظ وليست على ظاهرها عند أهل الحق والعلم لأصول تدفعها أقوى منها من الكتاب والسنة المجتمع عليها والآثار الثابتة أيضا من جهة الإسناد .
وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب فاحتجوا بهذه الآثار ومثلها في تكفير المذنبين واحتجوا من كتاب الله بآيات ليست على ظاهرها مثل قوله عز وجل ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
هذه بعض المقدمات التي رتبت عليها النتيجة في الجواب ، وقد خَتمتها بحكاية الإجماع على تأويل الآية في واقعة نقلها أئمة أعلام ولم ينتقدوها.
وسأناقش بعض أدلة الشيخ البخاري واعتراضاته في المجلس الثاني إن شاء الله.