تصادفت مرة مع أحد أصحاب مزارع النعناع في مقاطعة توجونين وبيده مبيد حشري من نوع ( دي سيس ) المستخدم في مكافحة الحشرات التي تهاجم مزارع الخضروات، فسألته من أين اشتراه ولماذا يريده؟ فقال إنه اشتراه من محل لبيع المبيدات في منطقة " لحرايث " بمقاطعة السبخه، ويريد رشه على مزرعة للنعناع يملكها.
قلت وهل بين لك صاحب المحل طريقة استخدامه، وهل قال لك إنه سام ويجب استخدامه بحذر وأنه لا يجوز حصاد النعناع وتسويقه مباشرة بعد رشه بهذا المبيد، وأن لابد من انتظار فترة زمنية تمتد من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع أو أكثر حتى تختفي المواد الفعالة والسامة في المبيد قبل حصاده وتسويه؟ قال لا، لم يقل شيئا وأنا متعود على استخدامه منذ فترة ولم أتضرر منه ولم أجد من زبنائي من يقول إنه تضرر منه..
قلت وهل لكم علاقة بوزارة الزراعة أو وزارة البيئة، وهل يزوركم مراقبون من هاتين الوزارتين لتأطيركم ولتفتيش مزارعكم والتأكد من سلامتها من هذه المبيدات؟ قال لا، ليست لنا علاقة بهاتين الوزارتين، ومن يزورنا هم فقط عمال شركة الماء الذين ندفع لهم فاتورة استهلاكنا من المياه، ومحصلي البلدية الذين ندفع لهم الضريبة الشهرية على نشاطنا..!
قلت له تعال أخي انصحك، إن هذا المبيد الذي بين يديك هو مادة سامة صُنعت لمكافحة الحشرات وهي فعالة وجيدة في حالة استخدامها طبقا للتوصيات والطرق المناسبة لاستخدامها، ولكنها تصبح مادة قاتلة في حالة عدم احترام معايير استخدامها، ولا يعني أنك شخصيا لم تتضرر منها، أو لم تجد من يقول إنه تضرر منها أنها ليست ضارة، فضررها يحصل بالتراكم استخداما بعد استخدام واستهلاكا بعد استهلاك في حالة استخدامها بشكل خاطئ، وتركته بعد أن بينت له طريقة استخدامها وتخزينها، والمدة الزمنية اللازم احترامها قبل حصاد وتسويق المنتوج الزراعي المُعالج بها، ولكنه كان مزارعا واحدا من بين عشرات المزارعين المستخدمين لهذه المبيدات وجدته بالصدفة فماذا عن الآخرين؟!
تذكرت هذه الحادثة بالأمس وأنا أتباع لقاء رئيس الجمهورية بالمزارعين في مقاطعة بوكي، حيث تدخل أحد هؤلاء المزارعين متحدثا عن مخاطر المبيدات الكيميائية المنتشرة والمنتشر استخدامها في المنطقة بشكل فوضوي دون رقابة ولا تأطير، لا على طريقة استيرادها ولا تخزينها ولا تسويقها ولا على طرق استخدامها.. مطالبا بإشراك وزارة البئية وإشرافها على تسيير هذه المبيدات.
والمبيدات الكيميائية أنواع، فمنها المبيدات العشبية ( les herbicides ( وهي المبيدات المستخدمة في مكافحة الحشائش الضارة، والمبيدات الحشرية ( les insecticides ) وهي المبيدات المستخدمة لمكافحة الحشرات، والمبيدات الفطرية ( les fongicides ) وهي المبيدات المستخدمة في مكافحة الأمراض الفطرية للمزروعات، وكلها مواد سامة ولها تأثير بيئي صحي تراكمي في حالة عدم احترام طرق استخدامها، إلا أن أكثرها سمية وخطورة هي المبيدات الحشرية لكونها تستخدم ضد الحشرات، والحشرات كما هو معلوم تشترك مع الإنسان والحيوان في امتلاكها لجهاز عصبي وجهاز دوري وجهاز تنفسي، حيث تعمل المبيدات الحشرية، من خلال احتوائها على تركيزات من العناصر المعدنية الثقيلة أو الغازية السامة كالكبريت أو الزرنيخ أو اسيانيد الهيدروجين.. على قتل الحشرات عن طريق تعطيل عمل أحد هذه الأجهزة، فمنها ما يعمل على القضاء على الحشرات عن طريق شل جهازها العصبي، ومنها ما يعمل على قتلها عن طريق منعها من التنفس، ومنها ما يعمل على قتلها عن طريق تجميد الدم وتعطيل عمل جهازها الدوري.
وبذلك يكون لهذه المبيدات في مجملها خطر كبير على البيئة وبالتالي على الإنسان والحيوان، وعلى الماء والهواء في حالة عدم التعامل معها بأقصى درجات الحيطة والحذر، وعدم تركها في أيدي من لا يدرون شيئا عن مخاطرها. لكن المبيدات مع ذلك كله شر لا بد منه.. فمع الزيادة المضطردة لسكان الأرض، وزيادة الطلب على الغذاء، والتوسع في المساحات المزروعة، وانتشار الآفات الزراعية وتكيفها واكتسابها المتتالي للمناعة ضد المبيدات، فإنه من شبه المستحيل الوصول إلى إنتاج زراعي بالكم والكيف اللازمين لتغطية الحاجيات دون اللجوء لاستخدام المبيدات، كما لا تزال وسائل المكافحة الأكثر أمانا والقائمة على المكافحة العضوية أو البيولوجية الخالية من الكيميويات محدودة الانتشار وفي غير متناول الكثيرين خاصة سكان العالم الثالث، فضلا عن ارتفاع تكاليفها وبالتالي غلاء أسعار المحاصيل الناتجة عن استخدامها.
ولذلك فالمبيدات الكيميائية الشائعة الاستخدام اليوم هي مواد مرخصة من طرف منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة، وهي بالتالي " آمنة " في حال استخدامها بشكل علمي سليم. لكن ظروف استخدام هذه المبيدات في بلادنا يعتريه الكثير من المخاطر، من حيث مصادرها وطرق تخزينها وبيعها وتداولها واستخدامها ومعالجة والتخلص من عبواتها الفارغة بعد الاستخدام..
فمن حيث المصادر كل منافذ البلاد وخاصة الحدود الجنوبية مفتوحة أمام استيراد وجلب هذه المبيدات دون قيود، ومن حيث طرق التخزين وكما قال المزارع بالأمس أمام الرئيس يتم تخزين وعرض هذه المبيدات في نفس المحل إلى جانب المواد الغذائية، بالضبط كما تعرض مبيدات الحشرات المنزلية في أسواقنا جنبا إلى جنب مع الخضروات واللحوم والمشروبات.. ومن حيث البيع والتداول يتم بيعها لكل من هب ودب من عمال مزارع وحقول في الغالب أميون، ومن حيث الاستخدام تستخدم في غياب لأي فنيين أو طرق استخدام آمنة، ودون مراعاة غالبا للفترة التي يجب احترامها ما بين استخدام المبيد على المحصول وبين حصاده وتسويقه، ويكون الأمر أشد خطورة في حالة الخضروات التي يتم حصادها وتسويقها على فترات، ومن حيث معالجة والتخلص من العبوات لا يختلف الأمر أيضا حيث يتم رميها كأي قمامة أخرى كيفما اتفق!!
لذلك فمن اللازم وضع استراتيجية محكمة لتسيير المبيدات الكيميائية، أولا بتطبيق نفس الإجراء المطبق على استيراد الأدوية البشرية والمحدد بمنفذين وحيدين لاستيرادها هما ميناء نواكشوط ومطارها الدولي، واعتبار أي مبيدات قادمة من منفذ آخر مواد مهربة تتم مصادرتها.
وثانيا بحصر وتحديد أماكن خاصة لتخزين وبيع هذه المبيدات تكون مرخصة وتحت المراقبة الدورية من طرف المختصين، ومحدودة العدد وملائمة للتخزين، مع حظر عرض أي مواد أخرى معها في نفس المحل.
وثالثا بمنع بيع هذه المواد للمزارع بشكل مباشر، وتكوين فرق فنية تكون هي من يقوم بعمليات استخدام هذه المبيدات على المزروعات على أن يدفع لها المزارع مقابل عملها، وأن لا تنتهي مهمتها عند ذلك الحد بل تبقى في حالة رقابة دائمة على المزارع من أجل احترام الفترات اللازم انتظارها ما بين رش المبيد وحصاد المحصول وتسويقه، وتسهر كذلك على جمع العبوات الفارغة للمبيدات ومعالجتها بالطرق العلمية المناسبة.
ورابعا باقتناء أجهزة اختبار لفحص كل المنتجات الزراعية القادمة إلى السوق، بما في ذلك المنتجات القادمة من دول الجوار والتأكد من خلوها من آثار المبيدات وإتلاف أي منتج تُظهر الإختبارات احتواءه على بقايا أو آثار من تلك المواد.
نقول هذا الكلام عن خبرة وعن تجربة عشناها لعشر سنين من العمل والممارسة في المجال الزراعي على ضفة النهر، ونقوله أيضا لإيماننا ووعينا بخطورة هذه المواد بشكل يفوق بكثير خطورة الأدوية المزورة التي أخذت زخما كبيرا، ذلك أن الأدوية في حالة ما إذا كانت فعلا مزورة، فإن الأمر يتعلق بالغش في تركيزاتها من المواد الفعالة، وفي هذه الحالة يقتصر ضررها على عدم فعاليتها في معالجة المرض وقد يحصل المريض على دواء غيرها ويتم شفاؤه.. بعكس المبيدات التي هي في الأصل مواد سامة تدخل كل مطبخ ومن خلاله تدخل إلى كل جسم عن طريق المنتوجات الزراعية المعالجة بها بشكل غير صحيح..!
كما نقول هذا الكلام أيضا انطلاقا من القاعدة الثابتة اليوم والتي تقول إن صحتك في غذائك وبيئتك.. وسيظل دور المستشفيات مهما تم تشييدها وتجهيزها، والكوادر الطبية مهما تم توفيرها وتكوينها ناقصا، إذا كانت هذه المستشفيات تمدها روافد مسببات الأمراض، فالصحة وقاية أو لا تكون.. وليت الأمراض التي تسببها السموم تقتصر على زكام أو صداع خاطف وليست سرطانات أو أمراض خطرة أخرى ناتجة عن فتك السموم بالأجهزة الحيوية للجسم! وليت سموم المبيدات أيضا بكتيريا أو جراثيم تزول بالطبخ أو بغسل وتنظيف الفواكه والحبوب والخضروات وليست عناصر معدنية ثقيلة لا يزيلها الغسل ولا التنظيف!