تتبنى المعارضة الموريتانية اليوم خطأ ما تقول إنه دور لها في منع رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز من الترشح لمأمورية ثالثة، فردا على سؤال لأحد قادتها مرة عن حصيلة تحركاتها ومسيراتها ومهرجاناتها على مدى أعوام، قال إنهم بتلك " الضغوط " أجبروا الرئيس على التخلي عن الترشح لمأمورية ثالثة.. ( ألا إن لم تكن إبلا.. ) فقد كان الهدف إسقاط الرئيس في مأموريته الأولى فرُضي من غنيمة إسقاطه بالإياب بعدم ترشحه لمأمورية ثالثة..
غير أن ذلك التبني أو الإيمان بهذا الدور يبدو أنه هو الآخر مجرد أحلام، ظهيرة كانت أم غسقا لا يهم، المهم أنه ليس سوى أحلام، وإن كان أقرب لذلك النوع من الأحلام الذي يسميه مفسروها " حديث النفس " وهو ما ينشغل به الرجل في يقظته فيراه في منامه.. بدليل أنهم يسوقون دورهم في منع الرئيس من الترشح، لكن ما إن يتحدث أي مسؤول عن بقاء الرئيس في السلطة حتى يستيقظوا فيفركوا عيونهم وتقوم قيامتهم قائلين هذا معناه أن الرئيس ينوي الترشح ويوعز للمسؤولين ببث وبعث الرسائل بذلك.. ألم ينتهي الأمر عندما منعتموه؟!
واثقون لكنهم في نفس الوقت غير واثقين من دورهم في ذلك المنع، فما يلبثوا أن يكتشفوا أن الدور أو الفضل في ذلك لا يعود لضغوطهم بل لضغوط خارجية تجعل الرئيس مجبرا على عدم الترشح في إطار ما يعتقدونه اهتماما غربيا بنشر الديمقراطية في إفريقيا ومنع قادتها من البقاء في السلطة، لكننا أيضا لا ندري من أين جاؤوا بهذه " الحقيقة " حين نرى الرئيس اتشادي إدريس دبي في السلطة منذ العام 1989 وقد فاز رئيسا في انتخابات 1996 وأعيد انتخابه سنة 2001، ثم رئيسا لولاية ثالثة في انتخابات 2006، فرئيسا لولاية رابعة سنة 2011، ويعد العدة الآن للترشح لولاية خامسة، وكل ذلك يجري أمام أعين الغرب وحليفته فرنسا بالذات..!
وها هو الرئيس عبد العزيز بوتفليقه يتم انتخابه للمرة الثالثة رئيسا لبلاده ويتم تنصيبه وهو على كرسي متحرك، وإذا بقي حيا فهو الأوفر حظا في الترشيح والفوز لولاية رابعة في رئاسيات العام 2019، ودائما يحدث ذلك أيضا تحت أعين الغرب و ( افرانسه ) كما يسميها الجزائريون..
وها هو الرئيس عبد الفتاح السيسي يترشح لخلافة نفسه واضعا خلف القضبان كل من يعلن التقدم لمنافسته إلى أن بقي وحيدا في الحلبة وفاز وانهالت عليه التهاني من مشارق الأرض ومغاربها.. وعلى حدودنا الجنوبية ترشح عبد الله واد لمأمورية ثالثة سنة 2011 ضد ماكي سال، والغرب عموما يتفرج وفرنسا تنظر ولسان حالها يقول لهما ( ال منكم أغلب هو صاحبنا )، ولو كان عبد الله واد فاز في تلك الانتخابات لكان اليوم رئيسا للسنغال يتعامل معه الغرب بنفس تعامله معه في مأموريتيه الأولى والثانية.. وغير بغيد من السنغال، بل وبالقريب جدا منها، ترشح يحي جامي لمأمورية رابعة، ورغم أنه هُزم واعترف بالنتائج عاد ورفضها وتمسك بكرسيه فلم يحرك الغرب ساكنا، ولولا جهود موريتانيا لكانت غامبيا اليوم ساحة حرب.
كما أتتنا القمة الإفريقية الأخيرة التي انعقدت في بلانا بالكثير مما كنا نجهله من أخبار العديد من زعماء إفريقيا الحاليين وتاريخهم في السلطة، وذلك من خلال ورقات التعريف بهذه البلدان وقادتها، فوجدنا أن هذا وصل للسلطة سنة 1980 وانتُخب رئيسا سنة 1990، وأعيد انتخابه ثانية سنة 2000، وانتخب للمرة الثالثة سنة 2010 ولا حديث عما بعد ذلك.. وذاك وصل للسلطة سنة 1990 وغادرها لفترة في أعقاب اضطرابات وعاد إليها ولا زال فيها إلى اليوم ودون أفق لتركها، وآخر توفي والده الرئيس وهو في السلطة التي وصلها منذ استقلال بلاده فخلَّف فيها ابنه الذي لا يزال فيها، وكلهم حلفاء للغرب بل وشركاء استراتيجيون له كل حسب البلد الغربي الذي كان خاضعا لاستعماره.. ولا نقول هذا الكلام، و نصيغ هذه الأمثلة تشجيعا لأحد على خرق الدستور، وإنما نتحدث عن واقع نشفق على من يتصور غيره ويبني عليه سياساته كي لا يضيع عليه الوقت، إلا إذا كان تضييع الوقت هروبا من التعامل مع الواقع هو الهدف أصلا..
اسمعوا يا سادة، وهذا كان من المفترض أن تكونوا أكثر إدراكا له ووعيا به من غيركم لولا تماديكم في الأوهام والحسابات الخاطئة رغم ما كبدتكم أياه من خسائر متتالية، لقد كان هتمام الغرب بالديمقراطية في إفريقيا مجرد موجة علت وعتت لفترة قصيرة، وما لبثت أن تكسرت على شواطئ المصالح الغربية، فوضع الغرب مصالحه والديمقراطية في إفريقيا والعالم الثالث عموما على كفتين، وبالطبع رجحت كفة المصالح وتوصل إلى أن ضمان مصالحه مرتبط باستقرار هذه البلدان، وتحت أي نظام حكم، أكثر بكثير من محاولات نشر الديمقراطية فيها.. تلك المحاولات التي لن تأتي إلا عبر التدخلات المباشرة في هذه البلدان، والتي سيكون كل تدخل منها بمثابة عود ثقاب في برميل بارود سينفجر مخلفا ما لا يمكن تصوره من تفكك وحروب ومجازر ومآس ونزوح.. فيضيع الاستقرار وتختفي أرضيات نشر الديمقراطية، والأهم من ذلك كله تضيع مصالح الغرب ويكون قد فتح على نفسه مزيدا من أبواب الهجرة السرية والإرهاب اللذين هما هاجسه الأول وشغله الشاغل اليوم.
فأتوا بواحدة غيرها إذن، فلا مانع للرئيس من الترشح من جديد سوى التزامه الشخصي وقناعته وقراءته للواقع، ويمينه حيث قال مرة في هذا السياق " إن القسمان اللذان أقسمتهما أكثر أهمية وقوة من كل ما سأقوله في المستقبل ومما تقوله المعارضة ". فما الذي تقوله المعارضة؟ المعارضة تقول إن الرئيس مجبر على ترك السلطة بسبب الضغوط الخارجية، وقد رأينا من خلال ما تقدم أن لا دور يُذكر للضغوط الخارجية في إجبار قادة إفريقيا على ترك السلطة، وإذا افترضنا وجود ذلك الدور، فإن لهؤلاء القادة مما يتنازلون عنه للغرب في سبيل غض الطرف عن بقائهم في السلطة أكثر بكثير مما لدى المعارضات.. أليس كذلك؟
مما تقوله المعارضة أيضا إن الرئيس إن لم يكن مجبرا على ترك السلطة بسبب الضغوط الخارجية، فإنه مجبر على ذلك بسبب ما تزعم هي أنه تحرك أو حراك داخلي ستجبره من خلاله على ترك السلطة، وحتى هذا هو الآخر مردود عليه.. إذ لا علم لنا بجهد ولا استرايجية ولا تكتيك ادخرته المعارضة خلال حراكها على مدى سنتين مما كانت تسميه " ثورة الرحيل " في سبيل تحقيق ذلك الهدف، إلى أن كلَّت واعترفت أن لا فائدة من مواصلة ذلك الحراك الذي علقت عليه عرابة الثورات العربية قناة " الجزيرة " بالقول إن ما يحدث في موريتانيا حراك سياسي يفتقد للسند الشعبي..! فما الذي طرأ إذن، وأي شعب حل محل ذلك الشعب الذي لم يمنح سندا شعبيا لذلك الحراك؟!
قلناها مرارا، وسنكررها اليوم إن للمعارضة مفهوما واحدا للتناوب على السلطة هو وصولها هي للسلطة وإلا فلا تناوب، وقلناها أيضا وسنكررها إن ما تسميه انتخابات شفافة، هي تلك الانتخابات التي تتم في ظل " عزل سياسي " للرئيس وأغلبيته وجميع أركان حكمه ومناصريه ليكونوا خارج اللعبة، أو بسن قانون " تمييز سياسي إيجابي " يُجمد بموجبه الرئيس أيضا وأغلبيته وجميع أركان حكمه عملهم السياسيى لتمكين المعارضة من الوصول الحتمي للسلطة!
وقد كان هذا المفهوم " الأعرج " اللا سياسي اللا منطقي واللا واقعي هو سبب الجفاء بين المعارضة والسفير السابق محمد فال ولد بلال حيث كان يقول لهم، وهو لا يزال بينهم، إن التبادل السلمي على السلطة لا يعني بالضرورة وصول المعارضة للحكم، وأعطاهم أمثلة كثيرة لبلدان عديدة ذات ديمقراطيات عريقة في أوروبا وآسيا حكمتها أحزاب ودام حكمها فيها لعقود ضمن تداول داخلي بتناوب لأحكام وحكومات من حزب واحد وبالتالي نظام واحد.. ولأنها، أي المعارضة كما قلنا، لا تريد استيعاب ذلك ولا التسليم به لم يرق لها كلام الرجل وشكت في نواياه، فجمد عضويته فيها كمكون مستقل من مكوناتها، فهي لا تريد إلا كلام من يضحكها.. وقد كان من تبعات وتجليات ذلك الجفاء تجاهلها لتعيينه رئيسا للجنة الانتخابات، بل اعتبارها تعيينه حدثا تافها ولا يستحق التعليق!
وعليه فالنظام باق، أو لنقل ساع في استخدام حقه الكامل في البقاء في السلطة بالطرق الديمقراطية، والرئيس كجزء من هذا النظام سيتموضعُ في هذه السلطة بحسب ما سيختاره له حزبه وأغلبيته ومناصوره، وبالتالي فهو بهذا المعنى باق ومستند في ذلك البقاء على رصيد شعبي ومكتسباتي كبير لا يُنتظر من المعارضة الإشادة أو الاعتراف به.. ومن هنا فكل واحد من مناصري الرئيس والراغبين في مواصلة المسيرة التي بدأها، والخطوات التي قطعها بالبلد، هو " ناطق باسم الحكومة " تجب محاكمته وإدانته..
وقد صدق واضع المثل القائل ( أل فرَّط افشرعو يعكّب يفصل فيه )، فمن سيَّر المظاهرات والمهرجانات والمسيرات على مدى سنين سعيا في ألإطاحة برئيس منتخب لا يزال في مأموريته الأولى، وأرسل الرسائل للجيش بأن يتحمل مسؤولياته، ومعروف المقصود هنا بتحمل الجيش لمسؤولياته.. دون محاكمة ولا حتى مساءلة، ليس هو أفضل من يتهم الآخرين بالتحريض على خرق الدستور ويطالب بمحاكمتهم.. وليس هو كذلك أفضل من يهدد بمخاطر خرق الدستور على مصالح واستقرار البلاد، حين لم يفكر في تلك المصالح وهو يُخضع بلده لتلك التجربة التي ظهرت مآسيها وويلاتها في أيما بلد..! لكن لماذا كل هذا الضجيج والفزع من ترشح الرئيس لمأمورية ثالثة وهو، كما تقولون، محاصر بين كماشتي الضغوطات الخارجية والخوف من ردة فعل المعارضة؟!