موريتانيا تتحسب لثأر "إسرائيلي" / المختار السالم

altتراجعت الحكومة الموريتانية بسرعة قياسية عن قرار “التعريب الكامل للإدارة”، وقامت على الفور بتأجيل “المنتديات التشاورية العامة حول التعليم”، إلى أجل غير مسمى، وهي المنتديات التي كان منتظراً فيها التخلص من هيمنة اللغة الفرنسية على التعليم والإدارة في البلد.

كما قامت الحكومة بإنشاء وزارة للشؤون الإفريقية، وبالمقابل ألغت كتابة الدولة لشؤون المغرب العربي، واتخذت العديد من الخطوات التهديئية لصالح الأقلية الإفريقية الموريتانية التي صعدت بشكل غير مسبوق منذ عقدين من الزمن، ضد النظام على خلفية قرار التعريب.

يبدو أن نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز شرع في وضع خطة سياسية “تحت التنفيذ” لمواجهة القيادات “المتطرفة” في شريحة “الحراطين” (العرب السمر) الداعية للانفصال عن العرب البيض وتأسيس قومية خاصة بها تدعى قومية “الحراطين” .

وفي السياق ذاته، اتجه ولد عبد العزيز إلى تحسين العلاقات مع الدول الإفريقية، فبعث برسائل إلى العشرات من رؤساء بلدان إفريقيا . وصاحب ذلك رفع غير مسبوق لحصة الأفارقة في “الوظائف السامية في الدولة”. حيث أسند قيادة 3 من أصل 4 قيادات أركان في الجيش لأفارقة، ومنحهم المحكمة العليا، ومحكمة الحسابات ومفتشية الدولة، ورئاسة اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، و7 وزارات وعدد كبير من الإدارات والمؤسسات والوظائف المختلفة.

هذه الخطوات التي شكلت مفاجأة في أوساط الأغلبية العربية، حظيت هذا الأسبوع بنقاشات كبيرة في أوساط الرأي العام الموريتاني، حتى إن قادة بارزين ومعتدلين سياسياً ما فتئوا يتساءلون عن السر وراء التوجه الجديد، إذ لا تشكل الأقلية الإفريقية عمقاً حزبياً أو انتخابياً ضارباً، فهي بمكوناتها الثلاثة (البولار، السننكي، والولف) لا تتجاوز نسبة 5 .16% إلى 20% من تعداد السكان.

لكن يبدو أن وراء الأكمة، أسباباً لهذا “اللغز” المتنامي التأثير في الشريحة العربية، ف”نواكشوط” - على ضعفها- تستقبل “المعلومات” أخيراً.

فحسب مصدر مطلع، أبلغت دولة مغاربية جهات في نواكشوط بضرورة اتخاذ النظام الموريتاني كافة إجراءات الحيطة في هذا الظرف خاصة في مجال “التعامل مع الشرائح والأعراق” .

وفي مداخلته خلال اجتماعه مع قوى سياسية موريتانية مؤخرا، قال الزعيم الليبي معمر القذافي، حسب ما نقله ل”الخليج” مصدر حضر اللقاء: “لا شك في أن “إسرائيل” ستحاول الانتقام بأي طريقة من موريتانيا على قطعها العلاقات . . هذه مسألة مفروغ منها . . وما يثار اليوم من قضايا هوية في البلد يندرج ضمن ذلك . . ونحن سنحاول مساعدة موريتانيا على تجاوز هذه الوضعية من دون التدخل في شؤونها الداخلية” .

ولم يتحدث الزعيم الليبي أبداً في هذه النقطة من فراغ . فالتقارير الأمنية والإعلامية لم تترك مجالا للشك في أن الانتقام “الإسرائيلي” يطبخ على “النار”، وأنه لم يعد ينتظر الفرصة المؤاتية بل بدأ بتخليقها.

ف”إسرائيل” قامت بنقل معدات سفارتها سابقاً في نواكشوط، من ارشيف وحواسيب، وطواقم بشرية، ما عدا السفير، إلى العاصمة السنغالية دكار، أقرب عواصم الجوار إلى نواكشوط . حيث لا تبعد سوى مسيرة ساعات بالسيارة.

وقد بدأت (السفارة التي أصبحت “ملحقية” في سفارة “إسرائيل” بالسنغال الدولة المجاورة)، باستقبال عملائها الذين جندتهم “أيام التطبيع” في نواكشوط، وقد رصدت جهات أمنية وسياسية موريتانية في دكار اجتماعات مطولة بين مسؤولين “إسرائيليين” مع ناشطين موريتانيين عرفوا بطرحهم العنصري والانفصالي.

وكان العديد من المراقبين قد لاحظوا أن قرار موريتانيا قطع العلاقات “بشكل نهائي” مع “الكيان” الصهيوني، قابله رد “إسرائيل” بعبارات موجزة في تصريحات صحافية، ومن مسؤول في “الكيان” لم يكشف عن اسمه قال “لقد اختارت موريتانيا أن تهوي في الظلمات” .

وفي تحليل لها، رأت وكالة “أنباء” الموريتانية المستقلة أن “إسرائيل” ترى أن الطريقة “الشعبوية” التي أعلنت فيها موريتانيا قطع علاقاتها مع “تل أبيب” عبر مهرجانات جماهيرية متلفزة، وما صاحبها من “منح” مستشفى أمراض السرطان بنواكشوط (الذي كانت تبينه “إسرائيل”) لطهران وإصرار السلطات على تصوير التلفزيون الموريتاني للجرافة التي هدمت الحواجز الأمنية لمبني السفارة “الإسرائيلية” السابقة بنواكشوط، شكل “إهانة” فعلية ل”إسرائيل” وحكومتها ما يستوجب ردا حاسما يستهدف مستقبل هذا البلد المملوء بالتناقضات الإثنية والسياسية.

وبغض النظر عمّا تحمله جعبة “الكيان”، فإن سيناريوهات “الرد الحقيقي” متوقعة على مستويين:

* الأول: سيناريو التصفية الجسدية للرئيس محمد ولد عبد العزيز، وذلك عبر التعامل مع الشخصيات الموريتانية التي قبلت بالتطبيع ودافعت عنه، ومساعدتها على رسم خريطة تحرك “رأس النظام” لإطاحته عبر انقلاب عسكري أو عملية اغتيال مباشرة أو غير مباشرة . ولا يستبعد في هذا المجال اللجوء لتكرار سيناريو “الطائرة” السابق، فقد ارتبطت “الطائرات” بسقوط ثلاثة رؤساء موريتانيين ولد هيداله، وولد الطايع، و”ولد بوسيف” الذي تعرضت طائرته لعملية فنية قبل إقلاعها أدت لتحطمها.

وقد تساعد كثيراً في هذا السيناريو “ارتجالية” ولد عبد العزيز في جولاته وتحركاته الداخلية والخارجية وتقليدية الإجراءات الأمنية المتبعة لحماية الرئيس.

* الثاني، الحرب الأهلية: وقد بدأت ملامح هذا السيناريو تتضح بالفعل، وتمثلت في خلق جو من التوتر وروح التمرد الداخلي في موريتانيا في صفوف عرقيات وشرائح البلد، فإلى جانب الرفض المستميت للأقلية الإفريقية الموريتانية لتعريب الإدارة وما خلفته الأحداث العرقية الأخيرة بجامعة نواكشوط، تم التركيز في هذا الإطار على استغلال مشاعر التهميش التي تشعر بها شريحة “الحراطين” (العرب السمر)، وتشجيع القيادات “المتطرفة” في “حركة الحر” على التملص من الانتماء للعروبة، وعلى الدعوة للحرب الأهلية وتشجيع عصيان في الجيش، والتخطيط ل”انقلاب عسكري أسمر” يطيح حكم “العرب البيض” . ويعمل نهائياً على تقسيم عرب البلاد على أساس اللون.

وقد لوحظ مؤخرا تطابق تام بين خطاب حركة “قوات تحرير الأفارقة الموريتانيين” (أفلام) التي تناصب العداء للعروبة، وبين المتطرفين العرب السمر، في ما يتعلق بالنظرة الداخلية للمكونات الاجتماعية للبلد.

وبغض النظر عن مدى خطورة الدور “الإسرائيلي” في تحريك بحيرة الوضع الاجتماعي الموريتاني المعقد، وتغيير مجرى تلك البحيرة نحو هذا الاتجاه أو ذاك . فإن نظام الجنرال عزيز بات أمام “صناعة متطورة للتشويش” . قد تشكل “ملتقى” لمتفرقات لا يجمعها بالضرورة خيط ناظم . ولكن تفرق النيات لا يمنع من تحقيق الهدف ذاته أحيانا . فقد أخذت الساحة السياسية الموريتانية “منعرجاً جديداً” مع تكرار المعارضة الموريتانية ولأول مرة بشكل رسمي وعلني نيتها الإطاحة بالنظام.

تبدو الأشياء في الوقت الراهن بصبغتها الطلسمية، إذ يرفض قادة المعارضة الموريتانية توضيح “الأسلوب الخشن” للتغيير بالرغم من إلحاح الفترة الزمنية (شهرين) التي تمناها رئيس البرلمان مسعود ولد بلخير لرحيل ولد عبد العزيز وحكومته . ورغم أن تغيير الأنظمة والأمزجة في موريتانيا قد يكون أسرع من تغير أشهر السنة، فإن تحفظ زعماء المعارضة على شكل “الإطاحة” بالنظام، لا يبقي أمام المحللين إلا الولوج إلى “خزانة الاحتمالات” .

فهل تهدف التعبئة الجماهيرية المعارضة في الشارع الآن لتحضير ل”ربيع نواكشوط”، أو “ثورة قمصان” تحت أي لون أو أي شعار . أم هي تعبير عن “اليأس” كما تؤكد الأغلبية، أم هي “تحضير مبكر” للانتخابات النيابة القادمة (2011) التي ستضرب المعارضة في العمق وتسحب منها رئاسة البرلمان كما يتوقع الكثيرون، أم هي “مساومة” سياسية تهدف إلى انتزاع جزء من كعكة السلطة كما وقع في عهد نظامي المختار ولد داداه وولد الشيخ عبد الله، أم هي “مقدمة” لدفع المجموعة الدولية لتقبل أي انقلاب قادم؟

لا يبدو حتى الآن أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يأخذ تهديدات المعارضة على محمل الجد، بل قال إن كلام المعارضة لا يعنيه لأنه مشغول الآن بالجرافات، في إشارة للمشاريع التي تنفذ في أحياء الفقراء.

والرجل طبعا هو الذي بنى المؤسسة “العسكرية الحديثة”، وأعاد تسليحها مؤخرا وتوزيعها داخل البلاد بشكل “مدروس”، ولا أحد يتوقع أن يهادن الجنرال الجريء أي “ثورة شعبية” مهما كان الثمن.

بل لا يستبعد أن يجفف الجنرال من جديد المنابع الشعبية للمعارضة عبر اكتساح حزبه، في عملية الانتساب الجارية حاليا، لقواعد المعارضة التقليدية، كما تبدي وسائل إعلام موالية للمعارضة مخاوفها من إقدام الجنرال عزيز على تفكيك كيانات حزبية معارضة أو ضربها في العمق بسحب بعض مركباتها وإلحاقها بقاطرة نظامه.

ولعل ما يخشاه “مقربو” النظام الحالي هو ما يتردد عن احتمال “تواطؤ” خارجي من الجوار، فالسنغال غير راض عن نواكشوط التي منعته من “حلم الأحواض النابضة” على نهر السنغال، أما جمهورية مالي فهي متخوفة من غضب نواكشوط المعلن على تعاملها مع “القاعدة”، وتخشى “باماكو” أن يمد النظام الموريتاني يده من تحت الطاولة لجبهة تحرير “أزواد”، أما جبهة “البوليساريو” المتداخلة” كثيرا مع اليسار الموريتاني وهو “دينامو” كل المعارضات الموريتانية، فمن الواضح أنها راغبة ب”جدية تامة” في رحيل الجنرال الذي تعتبره “حليفا” طبيعيا للنظام المغربي.

ومن كل هذا “الغضب المجاور” المكبوت، وهذا “التجييش” الداخلي الفائر، تتلبد بحق أجواء العملية السياسية في موريتانيا حيث الغيوم المتصاعدة تمنع الرؤية الصائبة من الطيران الآمن في مسار الأحداث.

هل يتمكن الجنرال الجريء من تجاوز مخلفات ملفات “التعريب” حيث لا تزال الأقلية الإفريقية غاضبة وغير “مطمئنة”، والتعامل بحكمة مع “الحراك غير المسبوق” في صفوف الشريحة العربية السمراء (الحراطين)، و”تهديدات” قادة المعارضة الجريئين والمحنكين، ثم ضبط الملف الخارجي المتداخل كنسيج العنكبوت . وأخيرا ما يتردد، وبقوة، عن سعي “الكيان” الصهيوني ل”قطع” أنفاس الجنرال الذي قطع “علاقة العار”؟

مما لا شك فيه أن الورود لم تكن يوما من مكونات طريق الأنظمة الموريتانية . ووحده من ينجح في “تسيير التناقضات” وإدارة “الفوضى” هو القادر على البقاء مؤقتا.

30. نوفمبر 1999 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا