يقول المثل الموريتاني إن "من عجز عن التغلب على منافسه فعليه بالجنون" ويبدو أن المعارضة عندنا قررت منذ بعض الوقت أن تمارس بعض الجنون السياسي بعد أن أعيتها الحيلة في إرباك النظام.
هو خطاب الإسقاطات الذي أضحى عنوان تصريحات بعض رموز منسقية المعارضة مؤخرا، حتى كأن البعض من كثرة إدمانه أصبح يسقط كل الشعارات المعروفة والعناوين المستخدمة في "الفضائيات الثائرة" سعيا لخلق واقع سياسي افتراضي يوهم شريحة من الرأي العام بأن البلاد تسير نحو الانفجار.
والإسقاط من أمراض النرجسية حيث لا يعطي الفرد لصورة الآخر الخصائص التي يتميز بها هو أو التي يتمناها، ولكنه يخلع على منافسه الخصائص التي يعتقد خطأ أنها ليست فيه والتي يرفض أن تكون له ويتخلص منها بنقلها إلى الآخر، وهذا هو الميكانيزم الدفاعي الذي يظهر أحيانا في شكل هذيان عظامي.
نودّ هنا في البداية أن نعبر عن كامل احترامنا لقادة الرأي من السياسيين الوطنيين، ونحن على يقين أن ظاهرة الإسقاط السياسي عندهم ظاهرة عرضية تتعلق بالخطاب ولا تمس شخصياتهم الموقرة، وربما كان دافعها حالة من الإحباط السياسي.
وإذا كان من الطبيعي أن تنتقد كل معارضة نظام الحكم وأن تتسقط زلاته، فإن الانحراف الخطير الذي عرفته لغة التصعيد السياسي مؤخرا يؤكد أن بعض السياسيين فقدوا صبرهم وأصبحوا يطلقون الكلام على عواهنه دون تفكير في العواقب..
وإلا فما معنى أن تدعو الأقلية إلى الثورة وإسقاط النظام على طريقة من ثاروا على أنظمة جثمت على صدورهم لعشرات السنين، ونحن في بلد يعاني من تعاقب أربعة رؤساء في أقل من خمس سنوات؟ وخرج منذ أقل من ثلاث سنوات فقط من أزمة سياسية؟
ما معنى أن يقف ناشط حقوقي في عشرة من أنصاره أمام مفوضية شرطة في وسط العاصمة ليعلن إنشاء "مجلس وطني انتقالي"!!
كيف يبلغ السخط السياسي أن يقف وزراء سابقون وإداريون يعرفون مفهوم الدولة ليقذفوا بسيل من الشتائم والتهجم الشخصي على المواطن الأول ورئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية؟، وهل وصل الحنق ببعض السياسيين أن ينشروا غسيلهم أمام كل رئيس أو وزير زائر كأن ليس بينهم وبين وطنهم أي مودة؟ نربأ بهؤلاء أن يفضلوا رعي الخنازير على القنوع بتتبع الإبل في صحراء الملثمين.
لا بأس إذن أن يقوم الإعلام المعارض بتحويل صرامة رئيس الجمهورية إلى "استبداد"، وأن تتحول ممارسة رئيس شرعي يتمتع بأغلبية برلمانية مريحة لسلطاته إلى "أحادية"، وأن تنقلب محاربة الفساد إلى عين الفساد، وأن تكون الإنجازات التي لا غبار عليها مجرد مصائب!!
لو لم يقم رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز بغير إرساء حالة مدنية بيومترية لكفاه، ولو لم يزد على تحويل 10 مليارات كانت تذهب فواتير في جيوب وكالات السيارات وقلة من الموظفين إلى علاوات للسكن والنقل يستفيد منها 30 ألف موظف لكفاه، ولو لم يقم بأكثر من القضاء على أحياء البؤس في نواذيبو ونواكشوط وتمكين أكثر من 100 ألف أسرة من قطع أرضية لكان ذلك كافيا، ولو لم يبن الرجل في ثلاث سنوات ثلاثة مستشفيات تعمل بكامل طاقتها في نواكشوط وقام بتعميم أجهزة غسيل الكلى في جميع الولايات وشراء اسكانيرات لكفاه، ولو اقتصر مجهوده على تعميم مدارس الصحة ومراكز التكوين المهني والإذاعات الجهوية على عواصم الولايات لكان قد قام بالواجب، ولو حصر مجهوده في ولايته الحالية على بناء 500كلم من الطرق المعبدة -وقد تمت- لكان قد أضاف نقلة نوعية للبنى التحتية، ولو أن الرجل لم يحلّ نهائيا مشكل العطش وانقطاع الكهرباء في نواكشوط لكانت أوضاع عاصمة البلاد مزرية حتى اليوم، ولو كان كل إنجاز الرئيس الوحيد هو بناء جيش وطني مهاب تفر أمامه عصابات الجريمة المنظمة والتهريب لكان ذلك كافيا...
إنها إنجازات بنيوية باقية للأجيال القادمة..
صحيح أن الموريتانيين علقوا على الرجل آمالا كبيرة، وهو مصمم على تعزيز الشفافية في مجال الصفقات العمومية، وإصلاح التعليم، وتقوية الإدارة، والنهوض بالقضاء، وتجديد الطبقة السياسية، وإرساء قواعد الديمقراطية، ولا غرابة إذا وقعت أخطاء في المسيرة لأن الذين لا يفعلون لا ينجزون ولا يخطئون، ولكن رئيس الجمهورية مستعد في جميع الأحوال لتدارك الأخطاء وتصحيح المسيرة ما دامت أهدافه واضحة وإرادته لا تلين.
لكن يتساءل الكثيرون اليوم ما الذي يجعل بعض قادة المعارضة ينزلقون إلى خطاب ينحو إلى الهجوم الشخصي والتشكيك في قدرات الرئيس وإنجازاته؟ وعلى ما ذا يعول الساخطون في ثورتهم المزمعة أو المزعومة؟
لا يخفى على أحد أن النزول بالخطاب السياسي إلى مستويات غير مسبوقة هو محاولة فاشلة من بعض المعارضين لاستفزاز رئيس الجمهورية، لأن الخروج على قواعد الديمقراطية والدعوة لإسقاط النظام سعي لأن تتجه السلطات لتطبيق القانون مما يمكّن هؤلاء من لعب دور الضحية، ويبدو أن رئيس الجمهورية كان أذكى من القوم حين حرمهم من ذلك.
ورغم أن أقلاما معارضة استثمرت كثيرا في الإساءة لشخص الرئيس، إلا أن السياسيين في قرارة أنفسهم واثقون من أن الرجل الذي هزمهم يوم الخندمة في 18 يوليو 2009 عندما نزل على شروطهم، وخرج منتصرا ليكون بذلك أقوى رئيس جمهورية شرعية في تاريخ البلاد، لأنه منتخب من حكومة وحدة وطنية ولجنة للانتخابات نصفهما من المعارضة، إن الرجل الذي أدار دفة السياسة منذ سبع سنوات وكان رقما محوريا في الطبقة السياسية لهو أجدر بالاحترام، وأقدر على هزيمة أعدائه اليوم، لأنه يعرف دائما كيف يخاطب الشعب ويستمع إلى همومه ويواجه المشاكل بشجاعة وإخلاص.
إنما تعول المعارضة على استغلال شبح المجاعة والغلاء في توتير الأجواء السياسية، وأخشى على الذين يزرعون ربيع البحر الأبيض المتوسط في جفاف الصحراء الكبرى القاحل، أن يكونوا كمن يزرع الشوك ليجني الجراح.
لقد حركوا النقابات في سعيهم لتوتير الأجواء، وكان حريا بالهيئات النقابية أن تتورع عن منافسة الفقراء وسكان الأرياف في موارد الدولة، لأنه في "عام الرمادة" توقف الحدود ويسود الإيثار على الأثرة.
أيها السادة لا تعمينكم المطامح الشخصية عن مصالح الوطن وقواعد الديمقراطية..
نعم للاختلاف لا للاختلاق، نعم للحوار لاللشجار، نعم للمعارضة الناصحة لا للمعارضة الناطحة..
لشيوخ المعارضة الذين نوقرهم ونكن لتاريخهم النضالي كل احترام؛ نرجو أن يحسن الله خاتمتكم السياسية ويجعل حرصكم على الوطن هو آخر أعمالكم.
ولشباب المعارضة المتعجلين لتصدر المشهد السياسي، نقول في التأني السلامة وفي العجلة الندامة، وقديما قيل "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه"
ولنشطاء المغامرين الذين يعولون على دعم المخابرات الأجنبية وباعة السلاح ويستثمرون في إثارة النعرات العرقية والفئوية، نقول للبيت رب يحميه، وسيحفظ الله هذا الوطن بمقدار ما شرب ترابه من مداد القرآن الكريم، ولامس ثراه وجوه الخاشعين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.