إن المتتبع لواقع الصحافة المستقلة في بلادنا -اليوم- يتبدى له عند الوهلة الأولى ما لهذا القطاع من مشاكل ومعضلا ت تكاد تعصف به وتقوض مبناه. ولأنني أحد من منتسبى حقل الصحافة المستقلة،
وشديد الغيرة عليه؛ سأحاول-فى هذا المقال المقتضب- التعريف بالقطاع وما له من دور في تنمية البلاد وازدهارها، ثم التطرق لأهم المشاكل التي يعانى منها، مع ذكر بعض الحلول المقترحة لحل تلك المشاكل، لعلها تساعد الغيورين على هيبة قطاع الصحافة المستقلة، والساعين إلى إصلاحه في بلورة إستراتجية شاملة لانتشال الحقل من المأزق الذي يتخبط فيه.
فمن المتعارف عليه أن الأخلاقيات الصحافية تقضي بأن يكون الصحافي المستقل مراقبا لما
يدور في فلكه من قضايا، ومهتما بشؤون بلاده السياسية والاقتصادية...الخ، من أجل خدمة
المصلحة العامة، وجنديا مخلصا في دفاعه عن الناس العاديين؛ وكشف مكامن الفساد ونصرة
المظلوم؛ وتحليل الظواهر السياسية والاجتماعية التي يعاني منها الناس ولا يملكون القدرة
على فهمها.
ذلك أن القراء يريدون من الصحافة المستقلة؛ معرفة الوقائع التي تعينهم على تشكيل رأي،
كما يريدون-أيضا- تحليلها ونقدها على قاعدة الدفاع عن مصالحهم كمحكومين، لا الدفاع عن أصحاب السلطة وذوى الامتيازات.
ولذا فإن مهنة الصحافة المستقلة ينبغي أن تكون مكرسة للصالح العام، ولفضح الألاعيب
والرشوة، واختلاس المال العام، ثم العمل من أجل تنوير المجتمع، كما ينبغى -كذلك- أن لا
يؤثر الانتماء الحزبي في ممارستها، بل تكون عادلة ومنصفة لأصحاب الآراء المختلفة، ومن
المفترض -أيضا- أن تأخذ مسافة واحدة بين الموالاة والمعارضة، بحيث لا تنحاز –في
معالجتها للقضايا السياسية-لطرف على حساب طرف آخر.
فالصحافة الجادة هي التي لا تنتمي إلى حزب أو جماعة، بل ترى في نقل الحقيقة - كما هي-هدفا أساسيا بالنسبة لها.
وللصحافة المستقلة أهدافا أخرى تتعلق بإشباع رغبات القارئ والإستجابة إلى طموحاته
المشروعة والترفيه عنه؛ و مده بالثقافة.
ويتوقع من الصحافي الكاتب في القضايا السياسية والاجتماعية أن يتنزه عن الإغراءات
المادية والسلطوية، تلك التي تمنعه من كشف الوقائع المزعجة للخواطر، وتحليلها ونقدها من
منظار علمي وموضوعي بحت، بهدف خدمة الصالح العام، ولحماية مصالح الناس العاديين، من خلال البحث عن المؤثرات التي تمنعهم من العيش الكريم، ثم التثبت منها وفضحها للرأي
العام.
ورغم أهمية هذا الدور في بناء مجتمعنا وترقيته، إلا أن الوفاء له بات يصطدم بإكراهات قد
تكون خارجة عن إرادة الصحفي الملتزم، وهي إما إكراهات اجتماعية (نفوذ القبيلة،
أو الجهة...)، أو تمويلية، وأحيانا تسويقية (متصلة بإستراتيجية بيع الصحيفة، أو حصولها
على إعلانات، أو اشتراكات..)؛ أوايديولوجية قومية، ثقافية، أو دينية، (كانتماء مدير نشر
الصحيفة، أو رئيس تحريرها لحزب، أو تيار أديولوجى معين..الخ).
كل هذه الاكراهات والمطبات تؤدي -فى النهاية- إلى عجز الكاتب الصحفي المهنى عن القيامبدوره كما يلزم.
ومن خلال تلك الإشكالية سأتطرق لأهم العوائق التي تعانى منها الصحافة المستقلة فى
دولتنا "الديمقراطية"، حيث أن أول ماتعانيه الصحافة المستقلة هو: نقص في الحرية بمعناها
الحقيقي؛ إلى جانب انعدام الغطاء القانوني القادر على حماية الصحفي.
وهنا لا أتهم السلطة فحسب، بقدر ما أحمل المجتمع ككل جزءا لا يستهان به من المسؤولية.
فإذا كانت الحكومة الحالية تزعم بأنها تعطى هامشا واسعا لحرية الصحافة-فهذا قد يكون
صحيحا نسبيا- لكنه لا يكفى؛ فما دام الصحفي لا يحصل على المعلومة مباشرة من لدن القائمين على الشأن العام؛ وما دامت هنالك قوانين تجرم الصحفي، وتعرضه للسجن بمجرد نشره خبر، أوتطرقه لموضوع غير مألوف..فذلك يعنى أن حرية الصحافة المنشودة، والمرجوة لم تتحقق بعد.
أما مجتمعنا-هو الآخر- له دور في تضييق الخناق على حرية الصحافة والصحفيين، من خلال بعض الملاءات اللا مقبولة، والتي تتنافى مع المهنية الصحفية، كنت قد ذكرت بعضها في بداية المقال.
ورغم أننى -الآن- لست بصدد الحديث عن حرية الصحافة ومقارباتها المتعددة، إلا أنني أجزم بأن العمل الصحفي المستقل لا يتأتى إلا من خلال وجود حرية حقيقية.
لأن هذه الحرية حين تكون مكفولة حقا وصدقا، فإنها تمكن أفراد المجتمع من الإطلاع على
الأمور التي تهمهم، والنفاذ إلى المعلومة الصادقة، والوقوف على القيمة الاجتماعية
للأعمال التي تصدر ممن يتصدون لخدمة المجتمع في مختلف المجالات، فيعرفون ما إذا كانت نافعة أو ضارة، وبذلك يتحقق التعاون بينهم من أجل خير المجتمع وصالحه.
فالصحافة المستقلة ينبغى أن تمارس رسالتها بحرية تامة؛ ولكن يجب أن تضع في عين الاعتبار عدم المساس بقيم المجتمع وعاداته، في إطار تعاليم العقيدة الإسلامية؛ والأسس الدستورية للدولة.
ومعالجة لهذا الاشكال أقترح مايلى:
أولا: تفعيل قانون الصحافة الأخير، وتعديل بعض مواده، حتى يضمن حماية حقوق الصحفيين، وتوفير الضمانات القانونية اللازمة لممارسة المهنة، خاصة حقهم في التعبير دون تعرضهم لأية مساءلة غير قانونية.
ثانيا: عدم مساءلة الصحفي عن الرأي الذي يصدر عنه؛ أو عن المعلومات الصحفية التي
ينشرها، وأن لايكون ذلك سببا للإضرار به مالم يكن فعله مخالفا لأحكام القانون.
ثالثا: منح الصحفي الحق الكامل في الحصول على المعلومات والأنباء والبيانات والإحصائيات من مصادرها الرسمية وغير الرسمية؛ وله الحق فى نشرها أو عدمه، والاحتفاظ بسرية مصادر معلوماته، ولا ينبغى -أبدا- إجبار الصحفي على إفشاء مصادره مهما كانت الظروف.
رابعا: يتعين أن يمنح الصحفي الحق في الإطلاع على التقارير الرسمية والحقائق والمعلومات والبيانات، وإلزام الجهة المتوفرة لديها بتمكينه من مشاهدتها والاستفادة منها.
ومن وجهة نظرى أعتقد أن هذه المقترحات -عند تطبيقها من خلال وضعها في مدونة قانونية- ستكون كفيلة بضمان حرية التعبير في بلادنا، ثم الوصول إلى الغايات المشروعة للجماهير، ولتحقيق الطمأنينة والرخاء الاجتماعي؛ كما ستساهم في المحافظة على كرامة الصحفيين والكتاب، وتشجيعهم على ممارسة النقد البناء والمسؤول، إلى جانب تجسيد تلازم مبدأ الحرية مع مبدأ المسؤولية في العمل الإعلامي.
إضافة إلى ماسبق فإن من أشد ماتعانيه الصحافة المستقلة -حاليا- هو كثرة الدخلاء على
المهنة؛ من الذين لا تربطهم بها علاقة، لا من قريب ولا من بعيد، فتجد -مثلا في بعض
الصحف- كاتب صحفي، أورئيس تحرير؛ أو مدير صحيفة..لا يحمل شهادة في مجال الإعلام، أو حتى ليس حاصلا على مؤهل أكاديمي؛ وإنما دخل حقل الإعلام لكونه من قبيلة كذا..أو يدعمه التاجر كذا..أو الحزب كذا..أو التيار كذا..أو لكونه ماهر في التجرأ على المس بأعراض الناس، وأكل أموالهم بالباطل.
هذه المعايير هي السائدة اليوم في حقل الصحافة المستقلة، فمن لم يكن مسلحا بها لا مكان
له فى الخريطة.
ولذا بات المدعين للمهنة كثر، والصحف غير الجادة لا يمكن أحصائها، عندها كثرت العناوين واختلط الحابل بالنابل..
الدولة -من جهتها- تساعد على ذلك من خلال التعاطى مع بعض "الصحفيين" أصحاب المواصفات السالفة الذكر، وتهميش البعض الآخر دون مبرر يذكر.
وهكذا فإن مخلفات هذا الوضع المزري باتت تسيئ إلى سمعة القطاع، وإلى هيبة القلة من
العاملين فيه من ذوى الخبرة العالية والمهنية، والتخصص، وحملة الشهادات الأكاديمية؛
والذين يتحلون بأخلاقيات المهنة، ويبتعدون عن الغوص في ذلك المستنقع الرديئ.
ويزيد هذا الوضع تعقيدا ما نشهد -الآن- من تناحر التجمعات الصحفية، أو الممثليات
النقابية على المصالح الشخصية، وعلى تقسيم الكعكة، بدل التوحد والغوص في هموم الصحافة والبحث عن حلول عاجلة لها.
ورغم أن الدولة أعلنت أنها ستقوم بتنقية القطاع؛ من خلال منح البطاقة الصحفية للمهنيين
فقط؛ بيد أن تلك الإجراءات التى اتخذت لذلك غير موضوعية؛ فكان على الدولة أن تنظم
مسابقة شفافة يشارك فيها الراغبون في اقتناء البطاقة، من ذوى التخصص والتجربة، ومن
المشهود لهم بحسن الخلق، والإلتزام، ثم أخذ نتائج تلك المسابقة بعين الإعتبار؛ بدل أن
تفتح بابا لاطائل من ورائه أمام كل من هب ودب من الذين يريدون الحصول على البطاقة
الصحفية-وهو ما وقع بالفعل- ففي الدفعتين الماضيتين تم منح حوالى 160 بطاقة، نسبة70% منهم لا علاقة لهم بحقل الصحافة، ولا تحمل أيشهادة أكاديمية تذكر.
لكن وبالرغم من ذلك فإنى أعتقد أن نية الحكومة في هذا المجال صادقة، كما أننى أقدر
أعضاء اللجنة المشرفة على اختيار مستحقي البطاقة الصحفية، وأدرك جيدا بأنهم ذووا كفاءة
ومهنية عالية، غير أنني لا أرضى عن الآلية المتخذة لتنظيم القطاع، حيث أرجو مزيدا من
الدقة والصرامة في الخطوات المتخذة.
إن من المعضلات التى تعرقل تطور قطاع الصحافة المستقلة في بلادنا، هو أن غالبية
الصحفيين(المحررين) يعانون من ضعف التأطير، والتكوين في ميدان عملهم.
وهنا لا يفوتنى أن أسجل أهمية إنشاء مدرسة عليا تتضمن قسم للصحافة، وهو -في الحقيقة-
أمر يستحق الإشادة والتقدير.
ونرجو من ذلك الجهد -إذا أحسن تسييره- أن يساهم في تكوين وتأطير الصحفيين الموريتانيين.
وللصحفيين مشاكل أخرى منها ماهو متعلق بغياب المأسسة، كأن يكون الصحفى يعمل في صحيفة لا يربطه بها عقد عمل، مما يعنى إمكانية طرده، أو التعدى عليه في أي وقت؛ دون منحه أبسط حقوقه المترتبة، كما تتم –عادة- مكافئة العاملين في بعض الصحف حسب مزاج ناشريها؛ و ليس على أساس معايير الكفاءة والتفانى في الخدمة.
ولذا فلا بد أن تقنن العلاقة بين الصحفيين، وناشري الصحف العاملين فيها، ثم إعادة
الاعتبار -كذلك- للصحفيين داخل مؤسساتهم، خلافا لما هو سائد اليوم.
ولن يتأتى ما سبق إلا من خلال دعم المؤسسات الإعلامية الجادة، وإشراكها فى رسم إستراتجية إعلامية واضحة المعالم قادرة على إنقاذ القطاع من الوضع المأساوى الذي يعيشه فى الوقت الراهن.
وفي الأخير أشير فقط إلى أن الإعلام المستقل يعتبر ضرورة لتدعيم مبادئ الديمقراطية
وحمايتها، وأن التعددية الإعلامية أمر حيوي للمساهمة في نشر المعرفة والمعلومات، وتحقيق المشاركة والمسائلة والإسهام في تنوير الرأي العام، وتشكيله باتباع المعايير المهنية
وبالتزام الحقيقة.
وأرجو أن يلعب إعلامنا دورا بارزا ومسؤولا في ترسيخ الديمقراطية، وتعميق الوحدة
الوطنية، ونشر الوعي والمعرفة بحقوق الانسان وحمايتها أحسن حماية.