رغم أن الحياة السياسية في موريتانيا شهدت الكثير من عمليات الشد والجذب السياسييْن؛ كرستهما الأحكام الأحادية والانقلابات العسكرية والانتخابات المزورة.. إضافة إلى الترهل البنيوي لكيان الدولة وعمليات الفساد وقمع الحريات..
إلا أن أيا من هذه الأخطاء أو الخطايا، لم تجرّ على سمعة بلاد شنقيط ومصداقيتها من الخزاية والعار ما جرته عليها خطيئة سجن العلماء وإهانتهم على أيدي بعض الأنظمة الحاكمة.. تذكرت عاقبة تلك الأنظمة والعقوبة الشعبية والتاريخية لها.. وأنا أقرأ نبأ اعتقال العالم والداعية الشيخ أحمد جدو ولد أحمد باهى على أيدي شرطة النظام القائم في بلاد شنقيط، في تكرار لخطايا ظننا أن درسها القاسي قد فهمه الجميع..
اللعب بالنار لم تكن تدرك الأنظمة التي استخفت بحرمة العلم وحمَلته وبمشاعر الموريتانيين بإقدامها على إهانة العلماء ورميهم في أقبية السجون (لا فرق بين إهانة القرآن الكريم وحرق كتب العلم الشرعي وهي في الكراس والأوراق، وبين إهانتها وهي محفوظة في صدور حمَلتها من ورثة الأنبياء) لم تكن تدرك أنها تلعب بالنار محليا وإقليما ودوليا.. وأنها بعملها المشين ذلك إنما تقوم بعملية تلميع لهؤلاء العلماء وتقديمهم – على حقيقتهم – أبطالَ كلمة حق عند سلطان جائر، وحملة رسالة لا يخافون في الله لومة لائم.. وأنها بهذه الخطيئة إنما تُحكم لفّ حبل المشنقة على عنق هيكل ما تبقى من مشروعيتها وشرعيتها ومصداقيتها.. لقد جنت تلك الأنظمة على نفسها وعلى أمتها خزيا لا يزال يلاحقها حتى اليوم.. وخرجت مدحورة من أسوأ أبواب التاريخ.. بينما خرج علماء الصدع بكلمة الحق والوقوف في وجه الظلمة؛ انحيازا لحقوق شعوبهم ورفعة أوطانهم - مرفوعي الرأس محمولين على رقاب العزة والكرامة!
"مجرّب المجرّب عقله مخرّب" مثل لدى إخوتنا المشارقة يؤكد – محقا – أن مجرِّب الأعمال التي سبق أن تمت تجربتها وأعطت نتائج عكسية، إنما هو في الحقيقة ذو عقل خَرِبٍ! أجل! إن إقدام النظام في نواكشوط على اعتقال العالم والداعية الشيخ أحمد جدو ولد أحمد باهى لا يصدر إلا عن عقل خَرِبٍ بالفعل.. لقد أتاح النظام - بفعلته الآثمة هذه - للشيخ أحمد جدو أن يوصل رسالته كما أراد وأن يبلغها الشاهد الغائب، وأن تتلقفها الألسن والأقلام؛ رسالة مؤداها أن حملة العلم وحفظة القرآن الكريم والدعاة إلى الله تعلى، يبرأون إلى الله تعلى من أعمال القمع والظلم والحيف التي يواجه بها النظام الموريتاني شعبه الأعزل إلا من إيمانه وشجاعته وتصميمه على نيل حريته وكرامته.. لقد كانت رسالة الشيخ أحمد جدو (التي لعب النظام دورا حيويا في إيصال مضمونها إلى حيث يريد الشيخ أن يصل) واضحة وجلية تعبّر عن الشهادة على الأمة والصدع بكلمة الحق لا يخاف في الله لومة لائم.. لقد كانت هذه الرسالة تعبيرا صادقا عن إحساس العالم الشنقيطي بمسؤوليته أمام ربه ثم أمام شعبه الذي يثق في وقوفه في صف الحق ودفاعه الصادق عن المظلوم.
أئمة النعمة والسبق إلى الخير.. بقدرما أعتب على رابطة علماء موريتانيا الموقرة (هيئة شبه رسمية) على تكرار أخطائها السابقة بخذلانها لعلماء شهادة الصدق ودعاة الصدع بكلمة الحق من حمَلَةِ المشروع الإسلامي المعتدل في موريتانيا. وعلى مسايرتها للأنظمة الظالمة لنفسها بإهانة العلماء وسجنهم.. في مواقف جرّت على هذه الرابطة الكثير من الخسائر في مصداقيتها وصدقيتها – دعك من الحكم الشرعي في نصرة المظلوم والصدع بكلمة الحق - وانقشع الغبار في كل معركة من معارك الأنظمة المستبدة مع علماء شهادة الصدق ودعاة الصدع بكلمة الحق من أبناء حمَلَة المشروع الإسلامي المعتدل في موريتانيا، وإذا بهذه الرابطة تنفض عن وجهها غبار الندامة على مواقفها التي لا تليق بمكانتها وعنوانها كرابطة لعلماء موريتانيا.. بقدر ما أعتب على هذه الرابطة الكريمة على عدم فهمها للدرس البسيط وعدم الاستفادة من أخطائها المتكررة.. فإنه لا يسعني إلا أن أقف إجلالا واحتراما لأئمة النعمة الفضلاء وعلمائها الأجلاء، على موقفهم المنحاز للحق، وبيانهم الصادق والمعبّر - بصدق – عن علماء موريتانيا؛ في أصالة علمهم وتجردهم للحق والصدع بالشهادة التي حمّلهم الله مسؤوليتها على خلقه.. ثم إنني بهذه المناسبة أدعو جميع العلماء والدعاة والأئمة إلى الوقوف صفا واحدا لاستنكار العودة بنا إلى هذه المذمة التي لا تزال تلاحقنا في مصداقية بلادنا واحترامها لرسالة العلماء الشناقطة التي يفخر بها عالمنا العربي والإسلامي.. ليس دفاعا عن الشيخ أحمد جدو فحسب، ولكن دفاعا عن احترام العلم وأهله ووقوفا ضد محاولة إعادة "تأميم" العلماء وتكميم أفواههم عن إيصال رسالتهم بالشهادة على الخلق والصدع بكلمة الحق.. ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.